الإسلام دين العلم والمعرفة، دين التفكر والتدبر، دين العقل والقلب، دين الروح والمادة، دين يجمع مختلف طوائف البشر بالعلم، دين يميز به بين الخاصة والعامة، فكما أن النور والظلمة، والليل والنهار، والسماوات والأرض لا تستويان، كذلك لا يستوي في الإسلام العالم والجاهل، قال الله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ {9}) (الزمر).
وقد حث الله تعالى الناس على التفكر في آلاء الله تعالى قائلاً: “أفلا يتدبرون؟ أفلا تعقلون؟ أفلا تبصرون؟”، ولا شك أن هذه الصفات لها صلة وطيدة بالعلم، فلا يكون التفكر معتبراً إلا بالعلم، وردت فضائل كثيرة في القرآن الكريم والحديث النبوي عن العلم وأهله، تتجلى منها أهميته وحاجته في كل عصر ومصر، قال الله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ) (آل عمران:18)، وقال رسولنا العظيم محمد صلى الله عليه وسلم: “الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله، وما والاه، وعالماً ومتعلماً” (رواه الترمذي: 2601)، ولا شك أن العلم مفتاح كل سعادة، ومعراج كل رقي، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “تعلموا قبل أن تسودوا” (صحيح البخاري، كتاب العلم).
علاقة قديمة
إن علاقة العلم باسم الله قديمة قدم التاريخ، وربط مصير العلم باسم الله أول مرة حينما جعل الله عز وجل سيدنا آدم خليفةً في الأرض، وقد علَّم الله آدم عليه السلام الأسماء، فارتفعت مكانته بين الملائكة وسمت درجته، ولاشك أن علم سيدنا آدم عليه السلام كان يغطي جميع الكائنات، فلم يكن هناك تقسيم للقديم والحديث، والإسلام لا يعتبر هذا التقسيم صحيحاً، بل يجعله جوراً على العلم، لأنه يضاد الفطرة الإلهية، ويخالف سُنة الله في الكون، قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ {27} وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ {28}) (فاطر)، وإن تأملاً قليلاً في هذه الآية يكشف لنا عن أمرين: أولاً: العلوم كلها لله، ثانياً أن العلوم الكونية أيضاً تحدث الخشية في قلب الإنسان، بشرط أن يكون الإنسان متصلاً بحبل الله، مفعماً بروح التقوى .
فوضى اجتماعية
مرت في التاريخ فترات مظلمة كان العلم منقطعاً عن اسم الله تعالى، كانت الحرف والصناعات، وكانت العلوم والتقنيات، لكنها كانت مجردة من روح العلم، فما أورثت هذه العلوم إلا بلبلةً فكريةً، وفوضى اجتماعية، حرمت المجتمعات الإنسانية سعادتها، وأصيبت بشقائها، وضاعت الأموال، وقلت الثمرات، وابتلي الناس بأنواع من الفتن والمحن، وكلما تجرد العلم عن اسم الله أراق الدماء وانتهك الأعراض، وأتى على الحرث والنسل، وأمامنا الآن مثالان في تاريخ الإنسان:
1- كان الزمن الجاهلي قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ في ضآلة العلم إلى آخر حد، وطالت الفترة على بعثة الأنبياء عليهم السلام، ولم يكن لتعاليمهم إلا بصيص قليل، وأثر ضئيل، فبفقدان العلم انطبعت آثار سيئة على ذلك المجتمع، كان هذا المجتمع مظهراً لكل نوع من السيئات والفواحش، حتى طلعت شمس الإسلام من غار حراء، فأضاء العالم بنورها الساطع، وأول درس أفاض على الإنسانية هو العلم، وذلك مقروناً باسم الله تعالى، فصار هذا العهد عهد الإسلام، عهد العلم والتعليم، وانمحت الأمية والجهالة وكل نوع من الفواحش والمنكرات، قال الله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {5}) (العلق).
2- كانت أوروبا في القرون المظلمة معاديةً للعلم وأهله، كان أهلها يعيشون عيشة غير مرضية، فإذا بهم قد وصل نور العلم إليها عن طريق علماء الإسلام الذين وصلوا إلى الأندلس، فنهضت نهضة بهرت الألباب، ولا شك أن رقي أوروبا كله مدين للإسلام، لكنها أخذت القشور وتركت اللباب، ولم تربط علاقتها باسم الله، فكانت حالتها كما صور د. محمد إقبال: “لقد تضخم العلم وتقدمت الصناعة في أوروبا، ولكنها بحر الظلمات، ليست فيها عين الحياة، وإن الأمة التي لا نصيب لها في التوجيه السماوي والتنزيل الإلهي، غاية نبوغها تسخير الكهرباء والبخار، وإن العلم والحكمة والسياسة والحكومة التي تتبجح به أوروبا مظاهر جوفاء، ليست وراءها حقيقة، إن قادتها يمتصون دماء الشعوب، وهم يلقون درس المساواة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، هذا كله نتيجة عدم علاقة العلم باسم الله عز وجل”.
هذا العصر المادي يفقد العلم المتصل باسم الله، فيئن ويتململ، ويمشي قليلاً فيتدحرج، ولم يدرك السر، ولم يصل إلى مركز الداء، وقد نشأت فتن كثيرة، وقد لا يزال يشتعل أوارها، وتتعقد المشكلات وتتفاقم، وتتأزم الظروف وتتعفن، فالعلاج الوحيد في هذه المرحلة العصيبة هو توطيد صلة العلم باسم الله تعالى، هنالك تنحل المشكلات، وتتفكك المعقدات، وقد وصف النبي محمد صلى الله عليه وسلم لمثل هذا الأمر وصفة حكيمة، فقال في الحديث المرفوع الذي رواه عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه: “اغد عالماً، أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً، ولا تكن الخامسة فتهلك” (رواه البيهقي، في شعب الإيمان: 1581)، والخامسة أن تبغض العلم وأهله.