شهد شهر رمضان على مدار التاريخ انتصارات عديدة وفتوحات حاسمة في تاريخ المسلمين، بدءاً من غزوة بدر الكبرى (2هـ) التي كانت فرقاناً بين الحق والباطل، ثم فتح مكة (8هـ) الذي صَدَق الله فيه وعده لرسوله وللمؤمنين بالنصر والتمكين، ومرورًا بفتح الأندلس (92هـ)، وتحرير بيت المقدس في موقعة حطين من الصليبيين المحتلين (583هـ)، ومعركة عين جالوت ضد التتار المعتدين (658هـ)، ووصولاً إلى انتصار العاشر من رمضان (1393هـ) الموافق السادس من أكتوبر(1973م).
ويجدر بالمتابع لهذه الانتصارات العظيمة أن يسأل، ما علاقة هذه الانتصارات الكبرى بشهر الصيام؟ وهل هذه الانتصارات قابلة للتكرار، وبخاصة في هذه الأيام التي يشعر كثير من المسلمين فيها بالهزيمة والانكسار؟ والجواب: نعم هناك علاقة وطيدة بين شهر رمضان والنصر؛ ذلك أن شهر رمضان يدرب الصائمين بشكل مباشر على اكتساب مقومات النصر، ويحقق فيهم عوامل التمكين التي نص عليها القرآن الكريم، وأمر الله بها المؤمنين عند ملاقاة المعتدين في كل ساحات المواجهة. يقول تعالى في سورة الأنفال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ {45} وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {46} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ {47}) (الأنفال)، ففي الآيات الكريمة أوامر ربانية للمؤمنين من صاحب قرار النصر الأوحد (الله تعالى)، يجب أن يلتزم بها المؤمن أمام الفئات المعادية للحق والمضطهدة لأهله. ويلاحظ أن هذه الأوامر بمثابة عوامل جوهرية لا يتحقق النصر من دونها.
وقد أكد تاريخ الانتصارات الكبرى للمسلمين في معاركهم المشروعة أن النصر كان حليفًا للأفراد والجماعات التي أقامت هذه العوامل، وأن الهزائم لحقت بالذين لم يبالوا بها ولم يهتموا بترسيخها.
وشهر رمضان – بخصائصه – يعين الصائمين على تحقيق هذه العوامل ودعمها في النفس والمجتمع، نتبين ذلك فيما يأتي من خلال عرض هذه العوامل، وربطها بالشهر الكريم، ومعرفة واقع الأمة منها في هذه الأيام.
أولاً: الثبات، بمعنى الإصرار على المبدأ، وعدم التنازل عن الحق، أو التراجع تحت أي ضغط أو أمام أي قوة، ولقد ترجم الأوائل الكرام هذا العامل في غزوة بدر، عندما واجهوا ببسالة، وتحدوا بإقدام – وهم قِلَّة مستضعفة في العدد والعُدَّةِ -جيش المشركين المدجج بالعتاد والسلاح. وفي انتصار العاشر من رمضان حطّم الأبطالُ بعزائمهم وثباتهم الجيش الأسطورة الذي لا يُقْهَرُ. والصائمون في شهر رمضان، يضربون مثلاً باهرًا في ثباتهم على صيام شهرٍ كاملٍ، يمتنعون فيه عن الطعام والشراب والشهوة، من غير تردد ولا ضعف، حتى ولو اشتد الحر وازداد العطش، وطال النهار وقصر الليل، وكثرت المغريات وتحركت الغرائز، فالكل ثابت محتسب راجيًا ثواب الله هدفًا ومغنمًا، وفي ذلك تدريب على أول مُقَوِّمٍ من مُقومات النصر؛ فالمعروف أن ثبات النفس أمام الشهوات وعادات اليوم والليلة في حال الرخاء يجعلها أقدر على الثبات في أوقات الشدائد والصعاب، ولعل من أهم أسباب الهزائم المتعاقبة في منطقتنا العربية والإسلامية هو تلون كثيرين من المثقفين وأصحاب الفكر بألوان الطيف أمام المغريات والتقلبات، وبيع كثيرين للمبادئ والأوطان رهبة من البطش والطغيان، أو رغبة في الكرسي والانتقام، ولكن في المقابل مازال هناك أسود لم تفتنهم المغريات، ولم تَفُت من عزائمهم الاضطهادات، يقويهم المبدأ الذي جمعهم، والغاية التي بايعوا من أجلها، أولئك هم أمل الأمة وطليعة النصر.
ثانيًا: ذِكْرُ الله كثيرًا، ويأتي في مقدمته ذكر اللسان بكل أنواع الأوراد المشروعة، ويدخل فيه أيضًا ذكر القلوب بالإخلاص والخشوع، وكذلك الجوارح بالتزام أوامر الله والبُعد عن نواهيه، ويمكن الاستشهاد لهذا العامل بقول صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) لجنوده في حطين: “من هنا يأتي النصر” وذلك عندما مرّ بالليل على خيمة بِها عددٌ من الجند يقرَؤون كتاب الله ويَقُومون الليل.
ومازالت تكبيرات الجند وصيحات التهليل في العاشر من رمضان تدوي بين أسطر التاريخ وعلى ألسنة الرواة شاهدةً على تحقق عامل الذكر في ساحات المنتصرين.
ومن المعلوم أن من أهم أعمال شهر رمضان بعد الصيام هو ذكر الله بأوراد القرآن والدعاء والاستغفار.. وغيرها من أنواع الذكر بالليل والنهار، وفي هذا التنوع للذكر في شهر رمضان تدريب على الإكثار منه والتعود عليه امتلاكًا للمقوم الثاني من مقومات النصر.
ولا يخفى عن كل متابع غيور المحاولات الجسام لفئات الفساد والطغيان لشغل الأمة وإلهائها في هذه الأيام عن ذكر الله بإشاعة الفواحش والمنكرات ومحاربة من يسعون بالتذكير بأوراد الاستغفار والصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وعجيب الأمر أن بعضًا من أفراد هذه الأمة المقهورة يسبحون ويحمدون بأسماء بعض الرؤساء والزعماء ويتغنون بها بالليل والنهار، وفي وسط هذه الغفلة الحالكة تسمع عن المسبحين والذاكرين الله في أوقات السَّحَرِ وحين البأس، أولئك الذي صدقوا وأولئك هم المنتصرون إن شاء الله.
ثالثًا: طاعة الله ورسوله، في المَكْرَهِ والعُسْرِ كما في المَنْشَطِ واليُسْرِ، فذلك دليل الإيمان وعلامة صدق الانتماء، ولا أدل على أهمية هذا المقوم في تحقيق النصر من حدث غزوة أحد، فقد انقلب النصر في بداية المعركة إلى هزيمة ومصيبة بسبب عصيان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ومخالفة الرماة لأوامره. وقد تواردت الأخبار أن كثيرًا من أشاوس حرب العاشر من رمضان كانوا يفضلون الصيام دليلاً على طاعة الله وذلك برغم مشروعية الفطر لهم في هذا المقام. وفي شهر رمضان يحرص الصائمون على طاعة الله ورسوله في بدء الصيام وانتهائه فيصومون لرؤيته، ويتبعون هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كيفية الصيام ومعرفة الأحكام، فيلتزم الصائم بوقت السحور والإفطار طاعة للرسول والتزامًا بأوامر الله؛ وفي ذلك تقوية وتأهيل للنصر من خلال العامل الثالث.
وفي هذه الأيام العصيبة يخرج على الناس من يدعو إلى الإلحاد، والعلمانية، وتجزئة أوامر الله ورسوله بقبول بعضها وإلغاء البعض، أو من يُزَيِّنُ المعاصي والسيئات ويُشَيْطِنُ العِفَّةَ ومكارم الأخلاق، ولكنّ إصرار كثير من الشباب على التصدي لجيوش التحلل والانحراف والدعوة إلى طاعة الله ورسوله بعزة وإباء يبعث في الأمة الأمل أنها إلى نصر قريب إن شاء الله.
رابعاً: عدم الاختلاف المؤدي إلى التنازع؛ وذلك بالتفاهم والتشاور، وإبداء الرأي والنصيحة المخلصة، ثم النزول على رأي الأغلبية. ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) أحرص ما يكون على الشورى والنزول على رأي الأكثرية في غزواته كلها كما حدث في بدر وأُحُدٍ.
ولقد شهدت حرب العاشر من رمضان اتحادًا واتفاقًا غير مسبوق لجيوش ودول عربية تآزرت أمام الفئة المعتدية الباغية فكان النصر حليفًا لهم.
وفي شهر رمضان يحرص الصائمون على تجنب الجدل والمراء وكل ما يدعو إلى الشحناء والبغضاء كالغيبة والنميمة، بل إن المسلم مطالب إذا سابَّه أحدٌ أو شاتَمَهُ أن يقول: “إن صائم” ليس ضعفًا ولا جُبْنًا، إنما من أجل اكتساب قوة نفسية تعين على كظم الغيظ وتجنب المنازعة والمخاصمة، وبذلك يرتقي إلى مقوم النصر الرابع.
إنَّ الأمة اليوم لتئن من اختلافٍ وتنازعٍ لم يُعرف في المنطقة من قبل، حيث استطاع الكائدون الماكرون في منطقتنا أن يُفرِّقوا بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه، بل وبين الزوجة وزوجها؛ لِيَفُتُّوا من عَضُدِ اللُّحْمَةِ الوطنية، ويُفَشِّلوا جهود الوحدة والالتقاء، وبرغم اتساع رُقع الاختلافات، وشِدَّة آلام الفُرْقَة، إلا أن أنّات التنازع لازالت تقلق المخلصين من أبناء الأمة؛ فنادوا بجمع الشمل، وتقوية الصف، وتوحيد الهدف، والتسامح والتغافر، ومع ازدياد الاستجابة لهذه النداءات تقترب الأمة من نصر الله الموعود شيئًا فشيئا.
خامساً الصبر: هو العروة الوثقى التي تشد من العزم، وتسهل الصعب، وتقرِّب البعيد، وتحقق الرجاء. بيّن الله في القرآن أن بالصبر يتضاعف العدد ويتحقق النصر والغلبة. يقول تعالى: “إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين” (الأنفال:65). ولقد تحقق ذلك في كل انتصارات المسلمين القديمة والحديثة، إذْ بصبرهم فاقوا عدوَّهم، وحققوا الأعاجيب. ليس هناك وقت يذكر فيه الصبر -فعلا وتطبيقًا-أكثر من شهر رمضان، فهو شهر الصبر كما جاء في الحديث، وفيه يتدرب الصائمون على معظم أنواع الصبر، كالصبر على الطاعة، والصبر عن العادات المألوفة، والصبر عن المباحات… وغيرها من طرق التدريب والتعوُّد على مفتاح النصر الأكبر. إن مما يُحزن القلب في هذه الأيام من تاريخ الأمة سماع كلمات الضَّجَر وعبارات التملمُل التي قد تؤدي إلى الجَزَعِ وفقدان الأمل، ولكن سرعان ما يعود الصبر الجميل والأمل واليقين أمام صمود أمهات الشهداء وزوجات المعتقلين، وإصرار الشباب والفتيات على الصَّدْعِ بالحق في الميادين وعبر وسائل التواصل… ولسان حال الجميع يتواصى (إنما النصرُ صبرُ ساعة).
سادسًا: البعد عن الرياء والعُجْبِ. لا يبحث المؤمن عن المواجهات مع الفئات المحاربة إنما دائماً يسأل الله العفو والعافية، وإذا ما قُدِّرَ له ملاقاة فئة من الأشرار المعتدين فهو يستعين بالله عليهم مخلصًا في مواجهته مبتغيًا وجه الله وعونه، ذلك أن الرياء والبَطَرَ والكِبْرَ والعُجْبَ سبيل الهزيمة المُحَقَّقَةِ كما حدث لجيش قريش في غزوة بدر، وكما يحدث للجيوش المعاصرة التي ترسم عن نفسها ما يخالف واقعها. ولا يخفى منزلة الإخلاص في شهر رمضان، فقد كتب الله أن يكون الصيام لهن والأجر منه إثابةً للصائمين من جنس أعمالهم عندما تجنبوا الرياء وحاولوا الوصول إلى منزلة الأتقياء الأصفياء.
لقد أثبتت تجارب العصر في محنه المتلاحقة أن بناء الأمم وتحقيق الإنجازات لا يكون بالظهور عبر شاشات الإعلام أو بتزييف الحقائق ونسبة إنجازات الغير إلى النفس من أجل نَيْلِ مغانم المنصب أو المال، لابد أن تتعلم الأمة أن أقرب طريق لمعرفة الناس بها ولظهورها على الأمم هو إخلاص الوجه لله والعمل لنيل رضاه.
ثم نلاحظ بعد حديث سورة الأنفال عن هذه العوامل الستة انتقالها بالمؤمنين إلى مرحلة الإعداد المادي الذي يكفي فيه -مع توفر عوامل النصر التي أشرنا إليها-أن تبذل الأمة ما في وسعها واستطاعتها، ذلك أنه لا تُهْزَمُ أمة من ضعف في القوة أو قِلَّةٍ في العدد ما تحلى أفرادها بمقومات النصر وأخذوا ما استطاعوا من أسباب المادة، كما أنها لا تنتصر بعدد ولا عتاد إذا فرَّط أفرادها في عوامل النصر ولم يبالوا بها. يقول تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ…” (الأنفال:60).
هكذا يمدُّ شهر رمضان الصائمين بمقومات النصر، ويدرِّبُهم عليها في كل عام ليكونوا كما أرادهم الله منتصرين، ولقد استفاد الجيل الأول من نفحات رمضان وتدريباته العملية؛ فتحقق لهم النصر الموعود في كل الميادين، وحَرِيٌّ بالأمة اليوم وهي تعاني من آلام عميقة، وجراح غائرة، ومصائب فادحة أن تؤهل جيل نصرها المنشود على هذه القواعد الرمضانية في النصر يقينًا وتطبيقًا، وليس شعارًا وتزييفًا.
(*) كلية الشريعة والدراسات الإسلامية – جامعة قطر.