محمد بن عبد الله الدويش
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث، قالت: وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وذلك في يوم عيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا أبا بكر إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا” (رواه البخاري 952 ومسلم 892).
يصور لنا هذا الموقف كيف كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع العيد، النبي القائد لأمته، المشغول بهمومها، الذي يرعى الصغير والكبير، يمتع نفسه وزوجته باللهو المباح يوم العيد.
إنه المنهج النبوي الذي يتعامل مع الإنسان في كافة مواقفه، يتعامل معه في السراء والضراء، ويتعامل معه في حال الفقر وفي حال الغنى، ويتعامل معه حين يولد ويخرج حيا للوجود وحين يودع الحياة ميتاً.
يقدم للناس منهج الحياة في السلم، كما يقدم لهم منهج الحياة في الحرب، يربيهم على الرجاء كما يربيهم على الخوف.
إن النفس تحتاج للجد والعزيمة؛ فالجادون هم الذين ينجحون في الحياة، كما تحتاج إلى قدر من الترفيه واللهو الذي يُجِمُّها ويريحها، ولا يحول بينها وبين الإنتاج والعزيمة.
إن مشروعية العيد في الإسلام دليل على حاجة النفس البشرية لقدر من اللهو والترفيه، بل إجمام النفس والترويح عنها في العيد يتجاوز مجرد الجواز والإباحة، فهو مشروع؛ فالصيام يوم العيد يحرم، ولو صامه أحد قضاءً ليوم من رمضان لكان صومه باطلاً ولم يجزئه هذا الصيام.
وفي وسط هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ما بين حروب وصراعات، وما بين مآس وفيضانات لا يطيق بعض الوعاظ والخطباء التوازن والتحكم في مشاعرهم، فتتحول خطبة العيد وما يليه إلى نواح على واقع الأمة وندب لها، وإلى اغتيال للفرح والاستبشار، فيتكرر في حديثهم: لا يحق للأمة أن تفرح بالعيد وهي تقتل وتهان، ولا يحق لها أن تفرح والأقصى بيد اليهود، كيف تستبشر وأعراض نسائها تنتهك وأطفالها ييتمون.
يقول أحدهم:
العيد أقبل يا وليد فلا تكــن *** فرحاً به أبداً فما هو عيد
ما العيد إلا أن نعود لديننا *** حتى يعود نعيمنا المفقود
ما العيد إلا أن نكون كأمة *** فيها محمد لا سواه عميد
إننا نقدر مشاعر من قال هذه الأبيات؛ فمشاعر الشعراء وعواطفهم وأحاسيسهم لا يمكن إخضاعها للمحاكمة المنطقية الفكرية.
وليس العتب على من يقول مثل ذلك أو يدعو الأمة إلى تذكر مآسيها وأحوالها.
لكن العتب أن تتحول الحال وتنقلب؛ فيكون الحديث عن العيد موسم استثارة الأشجان والأحزان، وأن يوصم الفرحون بالعيد بأنهم متبلدو المشاعر والأحاسيس، وأنهم فاقدون للغيرة على واقع الأيامى والأرامل والأيتام.
فرح النبي صلى الله عليه وسلم بالعيد، وترك الحبشة يلعبون بالمسجد، وأذن في العيد بلهو لا يؤذن فيه بغيره، كل ذلك وليس المسجد الأقصى بل بيت الله الحرام بيد أهل الشرك والأنصاب، والأصنام والأوثان تملأ ربوع البيت، وتعتلي الصفا والمروة والمشاعر التي أمر الله أن يذكر فيها وحده، ويكبر ويثنى عليه.
فرح صلى الله عليه وسلم بالعيد واستبشر ودعا لذلك، وفي مكة طائفة من المستضعفين ممن قال عز وجل عنهم {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} (النساء: 98).
والذين قال عنهم في آية أخرى {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيما} (الفتح: 25).
إن مدى هذه القضية يتجاوز حدود العيد ومناسبته، لكنه قراءة في الواقع التربوي والدعوي.
إن الانطلاق مع العواطف والمشاعر والاستجابة لندائهما دون الوعي بآثار ذلك على بناء النفوس، قد يقود لمواقف إيجابية من التفاعل والتعاطف، لكنه قد يقود إلى خلل في بناء النفوس.
قد يقود إلى بناء نفوسٍ لا ترى إلا الصور القاتمة السوداء وتغيب عنها الصور المشرقة، نفوسٍ تعيش في صراع مع الفرح والاستبشار.
وهذا التأثير يمتد إلى عطاء هذه الفئة من الناس؛ فيؤثر على عطائها الدعوي وعطائها التربوي.
يفترض كثير من الناس العلاقة الموجبة بين ارتفاع وتيرة النقد والأسى والرؤية القاتمة وبين الغيرة والحمية للدين، وهو افتراض لا يوجد ما يؤيد صحته.
وحين تسود لدى المربين النظرة القائمة الموغلة في البحث عن الأشجان والمواجع يترك ذلك أثره البالغ على الجيل الذي يُنشِّئونه، فينشأ يحمل القدر نفسه من هذه المشاعر السلبية.
حين يزيد الملح في الطعام، أو يبالغ الطاهي في كمية المحسنات يفقد ذلك قيمته ويتحول إلى طعم مؤذ لصاحبه يمنع استساغة ما يأكل.
وهكذا حين يزداد الحديث عن المواجع والفواجع والمآسي يتخلف هذا الحديث عن وظيفته في الحث على التفاعل والإيجابية، وفي تحريك النفوس للعمل والإصلاح، إلى عامل من عوامل التيئيس وقتل الأفكار الواعدة ووأد التفاؤل.
وبقدر ما يحتاج أبناؤنا وبناتنا اليوم إلى استثارة مشاعرهم وعواطفهم نحو أمتهم ومجتمعهم، فهم بحاجة إلى إشاعة الأمل والاستبشار في النفوس، وإلى إحياء التفاؤل فقد كان المربي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير، وكان يعجبه الفأل، وكان يقول: “الطيرة شرك، وخيرها الفأل”، كان صلى الله عليه وسلم يعيش هذا الشعور وهو يعيش أحوالاً من المد والجزر في واقع المسلمين آنذاك، يعيشها في وقت السلم والحرب، في وقت النصر وتخلفه، في وقت الجوع والمسغبة ووقت السعة والرخاء.
إنها ليست دعوة لتجاهل الصور السلبية ولا إلى التهوين من شأن التفاعل مع مواجع الأمة، لكنها دعوة إلى التوازن والاعتدال، وبالأخص في مواسم الأفراح والبهجة فلكل مقام مقال.
ودعوة إلى التعامل مع كافة أوتار النفس البشرية، مع الرجاء والخوف، مع الأمل والتوجس، مع الاطمئنان والقلق، مع العزيمة والجد والترفيه والترويح.
المصدر: موقع “المربي”.