رغم الحوادث التاريخية التي تعرضت لها الأمة فإن حالها مع القرآن ظل حافظاً لقوامها من التدهور
فكرة «البيوت القرآنية» الحل الذي على الأمة مأسسته اجتماعياً والانتباه إلى ضرورته الحضارية
البيئة التي تحيط بالطفل ليست مجرد أشياء تتحرك لكنها رموز يتشكل بها وجدان النشء
يجب إعطاء مساحة أكبر للقرآن في واقع الطفولة لتحقيق الارتباط الوجداني الذي يشب عليه الطفل
شهر رمضان هو شهر القرآن، وهو أكثر الشهور إقبالاً من المسلمين على كتاب الله عز وجل، وندعو في هذه المقالة إلى تجديد وتصويب علاقة المسلم بالقرآن من خلال إعادة بناء تلك العلاقة، بحيث تكون مثمرة على مستوى الفرد، وعلى مستوى المجتمع والأمة، فالبحث في كيفية استعادة الدور والوظيفة للقرآن في المجتمع الإسلامي المعاصر من القضايا التي ينبغي أن يكون لها الأولوية عند الدعاة والمصلحين والتربويين عموماً.
لا يمكن النظر إلى اللحظة الراهنة التي تحياها الأمة دون تمركز القرآن في تلك النظرة، وهو ما يتطلب إعادة بناء العلاقة بين المسلم والقرآن، وهذا يتحقق عبر منهجية تقوم على أمرين؛ الأمر الأول: التخلي عن أوجه القصور الحالي في تعاملنا مع القرآن، وأقصد تحديداً تجاوز التعامل «التجاري» مع القرآن؛ أي ذلك التعامل الذي يرى في القرآن مخزناً للحسنات علينا أن ننهل منها بصرف النظر عن غايات القرآن من القراءة ومقاصده التي أنزل من أجلها، ومقاصد القراءة ذاتها، وما يتعلق بهذا الأمر من موسمية القراءة وموسمية اختيار السور وموسمية الاهتمام والعناية.
والأمر الثاني هو الانتباه إلى القدرات التفسيرية التي يمتلكها القرآن في نظرته للأحداث وتفسيره للحوادث، بما يمكن المسلم من إدراك واجبه المجتمعي والحضاري.
إن هذا كله يستدعي إعادة التأمل في علاقتنا بالقرآن، وضرورة تصويب تلك العلاقة، وأن يبدأ ذلك التصويب والتصحيح ببداية حركة الإنسان وبداية وعيه وهي مرحلة الطفولة.
علاقة الأمة الراهنة بالقرآن:
صاحب التدهور الحضاري الذي دخلت فيه الأمة منذ ما يزيد على القرنين من الزمان تدهور في علاقاتها بالقرآن وفي طبيعة تلك العلاقة وشكلها، وكان هذا عاملاً من عوامل التدهور الحضاري الذي شهدته؛ فرغم الحوادث التاريخية العديدة التي تعرضت لها الأمة داخلياً وخارجياً منذ نشأة دولة المدينة، فإن حالتها مع القرآن ظلت حافظة لقوامها من التدهور والتراجع، وظلت أيضاً عاملاً دافعاً لأداء الأمة رسالتها في البلاغ الحضاري للعالمين.
لقد مثَّل القرآن قوة دافعة للأمة ومحفزاً لطاقتها الحيوية الفردية والجماعية، ومنبعاً لحركة التحضر الواسعة التي شهدتها الإنسانية.
ويرصد عماد الدين خليل التحولات التي أحدثها القرآن في العقل البشري في ثلاث نقلات أساسية؛ الأولى: النقلة التصورية الاعتقادية، وتتضمن القيم التصورية؛ كالربانية والشمولية، والتوازن، والتوحيد، والحركية، والإيجابية، والواقعية التي تداخلت مع بعضها وشكلت نسقاً فكرياً فريداً، والثانية: النقلة المعرفية، وتبدو في التحول المعرفي للعقل بمده بما يمكنه من التعامل مع الكون والعالم والوجود، والثالثة: النقلة المنهجية، التي أتيح فيها للعقل المسلم أن يتحقق بها، وأن يتشكل وفق مقولاتها ومعطياتها التي امتدت باتجاهات ثلاثة، هي: السببية، والقانون التاريخي، ومنهج البحث الحسي (التجريبي)(1).
وقد كان لتوقف هذه القوة الدافعة عن العمل في نفس الإنسان المسلم دور رئيس في توقف نشاطه وعطائه الحضاري، وحدث ذلك التوقف عندما انفصل العقل المسلم عن الاتصال بمصدر حركته العلوي (القرآن)، فانطفأت جذوته المعرفية والمنهجية والتصورية، ومن ثم غابت الأمة عن الحضور والشهود، واضطربت مفاهيمها وأصيبت في رؤيتها الكلية، واستعارت مناهج فكرها وبرامج بناء عقول أبنائها، وتحولت إلى فريسة سهلة، مأسورة بكل وافد وجديد.
ومن شواهد تدهور علاقة الأمة بالقرآن: العجز عن فهمه وتدبره والاكتفاء بالحفظ والاستظهار، وهو البديل النفسي التعويضي الذي اخترعته الأمة نتيجة اضطراب علاقتها بالقرآن وتشوهها، كذلك الاكتفاء بالشروح الكثيفة الموروثة، والتركيز على مسائل الكلام والإعراب والبيان دون الالتفات إلى المقاصد القرآنية، وعدم الاعتبار للتأمل في فهم النفس والمجتمع وما آلت إليه الأمة من واقع المشهد القرآني.
كذلك أيضاً تم التعامل مع القرآن بطريقة حرفية لفظية تقوم على اعتبار أنه وسيلة للوعظ السلبي والترهيب وطاعة الحكام لا على أنه طريق لهداية الناس والعمران وبعث المسؤولية الحضارية للمسلم، «فالمجتمع الإسلامي يتكلم تبعاً لمبادئ القرآن، ولا يعيش طبقاً لمبادئ القرآن، وذلك لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي..»(2).
الطفولة مرتكز استعادة القرآن:
إن تعامل الأمة «المقلوب» مع القرآن وانتقالها من التدبر إلى الاستظهار، ومن منطق العمل إلى منطق الكلام، ومن المقاصد إلى التجزؤ والتفتت، لا يمكن إعادة بناء ذلك التعامل وتلك العلاقة وتصويبها إلا من خلال البداية الوجدانية والنفسية للإنسان المسلم، أي عبر بناء تربوي يبدأ من نقطة وعي الإنسان المسلم الأولى، ومن تكوينه الوجداني والنفسي والعقلي.
إن فكرة «البيوت القرآنية» تظل هي الحل الذي على الأمة مأسسته اجتماعياً والانتباه إليه وإلى ضرورته الوجودية والحضارية، وتهدف هذه الفكرة إلى:
1- استعادة القرآن على مائدة الأسرة المسلمة، ونقصد بالمائدة هنا المائدة التربوية والثقافية والنفسية، فيكون القرآن محوراً لاهتمام الأسرة بالتعليم والدرس والنقاش والمداولة، بما يمنحه مكانة وقيمة في نفوس النشء المسلم، فالبيئة التي تحيط بالطفل ليست مجرد أشياء تتحرك، ولكنها رموز يتشكل بها وجدان النشء.
2- كما تعد اللغة عاملاً رئيساً في البناء الوجداني والثقافي للطفل، واللغة القرآنية وسيلة مهمة في هذا السبيل لا سيما في عصر الاختلاط الثقافي ومحو الخصوصيات الثقافية والحضارية، وارتباط الطفل بلغة القرآن يمنحه أفقاً أكثر اتساعاً للحياة القرآنية بداخله، كما أن اللغة تؤدي دوراً رئيساً في بناء المفاهيم وعالم أفكار الطفل وتكوينه الثقافي.
3- بناء «ثقافة أسرية» قرآنية يكون القرآن مدار حركتها ونشاطها وتوجهها ومرجعيتها الاجتماعية؛ بما يحقق فاعلية القرآن في واقع الأسرة الصغير.
4- بناء «تاريخ قرآني» يبدأ بعلاقة الطفل بالقرآن ويسجل عبر مراحل حياته، بما يؤسس لذاكرة قرآنية للإنسان المسلم تنمو مع نموه العقلي والوجداني والفسيولوجي، ويدوَّن فيها فعلياً سجل لحالة الطفل مع القرآن، بما يحقق فعالية القرآن وربط السماء بالأرض، والغيب بالشهود بما يحقق حالة الانسجام بين المسلم والقرآن، وبين المسلم والإسلام.
5- تربية «الضمير القرآني» عند الطفل، عبر تراكمات التعامل مع القرآن بما يسهم في تكوين ميزان الحكم وميزان العدالة القرآنية مع النفس والمجتمع.
من وسائل بناء الدفعة القرآنية في الطفولة:
وفي ظل العمل على بناء الدفعة القرآنية ومعالجة الوهن في وجدان الشخصية العربية والإسلامية وعقلها، فإنه لا بد أن نعطي مساحة أكبر للقرآن في واقع الطفولة، من أجل تحقيق الارتباط الوجداني الذي يشب عليه الطفل، فتتحقق به ثمار نواة الإنسان المستخلف والإنسان الرسالي، ومما يساعد في ذلك:
1- أن يحمل الطفل القرآن في حقيبته المدرسية بصورة يومية، ويكون له مكانه الثابت في تلك الحقيبة (بالطبع بعد أن يعلم قداسته وضرورته العقدية بصورة تلائم عمره ومرحلة نموه).
2- أن يتحول القرآن إلى واقع غني للطفل يجد فيه الأشجار والألوان والأصوات وكل عناصر الجمال.
3- أن نحاول جاهدين صرف الطفل عن برامج التلفزيون والإنترنت والهواتف وما إلى ذلك، وذلك بالممارسة التطبيقية لكتابة بعض آيات القرآن القصيرة (عن طريق الورقة والقلم)، وأن نجعلها نشاطه الدائم بالرسم والتلوين لمشاهد تلك الآيات وإطلاق الخيال للطفل الذي هو أخصب ما يكون في هذه المرحلة.
4- إشباع حاجة الطفل إلى سماع الحكايات والقصص من قصص القرآن، ويكون لها أوقاتها المميزة مثل قبل النوم، وتكون شبه عادة يومية ولو دقائق معدودة.
ينبغي أن تمتد ظلال القرآن الكريم إلى كافة مناشط الطفل، لتحتويه منزلياً، ومما يمكن أن يفيد في ذلك تعليم أسماء السور، التي يمكن أن تكتب على جزء من لوحة ورقية، ثم يرسم على تلك اللوحة أهم محور للسورة بداخلها ويعلق في حجرة الطفل، ويتم تفهيم الطفل بقدر نموه العقلي هذا المحور الذي تُبنى عليه السورة، وكيف يمكن أن يستفيد به في حياته ونشاطه.
وخلاصة القول هنا: إنه لا نجاة لهذه الأمة في هذه الموجات من الهزائم المادية والنفسية إلا بالتعليم المنزلي (البيوت القرآنية)، وذلك من أجل بناء نشء يتجاوز عوامل الإحباط أو الانحطاط الذي وقعت فيه أجيال حالية، والبدء دائماً بما بدأت به هذه الأمة في البناء؛ «لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها» وهو القرآن الكريم، هو الدفعة التي لا يمكن لأي معوض آخر أن يحل محلها.
الهامشان
(1) خليل، عماد الدين. حول إعادة تشكيل العقل المسلم، ص47 – 60 (باختصار).
(2) بن نبي، مالك. شروط النهضة، ص96.