تحدثنا في مقالات سابقة عن حق الجار، وذكرنا أن من أهم الحقوق التي جاءت بها شريعتنا الإسلامية الغراء حق الجار، وأكدت الشريعة أيضاً على حسن معاملة الجار وفضل الإحسان إليه، ومن ذلك قول المولى سبحانه وتعالى موصياً بحق الجار: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ (سورة النساء: الآية 36)، فهذه وصية ربانية واضحة بالإحسان إلى الجار بعد الإحسان للوالدين واليتامى والمساكين، وفي السنّة النبويّة المطهّرة حديث عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ” (رواه البخاري: برقم 5669، ومسلم: برقم 6854).
وقد ضرب أهل الكويت الكرام أروع الأمثلة تطبيقاً لهذا الأمر الإلهي، والتوجيه النبوي الكريم، وتجلت صور رائعة لحسن الجوار والمعاملة الحسنة للجار، فيظهر المعدن الأصيل لأهل هذا البلد المعطاء في حب الخير للجار، والفزعة من أجله، وحسن التعامل معه.
وتوضح هذه القصة الواقعية من كتاب “محسنون من بلدي” (الجزء الأول – ط2 – الكويت: بيت الزكاة، 2001م – ص 129-133 – مستشار التحرير د. عبدالمحسن عبدالله الجارالله الخرافي) مثالاً ونموذجاً لبطلها التاجر محمد بن مدعج المدعج، وكان أحد التجار المعروفين بالإحسان إلى الجار في عصره، كما عرف عنه الجود والكرم، والإحسان إلى الفقراء والمساكين.
أما عن قصة إحسانه إلى جيرانه وحسن معاملتهم ففيها من العبرة والعظة ما هو جدير بالذكر، وفيها أن التاجر محمد بن مدعج المدعج اشتهر بحسن الجوار وحسن المعاملة وعرف أيضاً بنخوته العربية وأخلاقه الكريمة، وفي هذا يروي الشيخ عبدالله النوري في كتابه “خالدون في تاريخ الكويت” قصة تدل على الاحترام المتبادل بينه وبين المواطنين فقال: علم السيد محمد المدعج أن السيد علي السيد سليمان الرفاعي اشترى بيتاً مجاوراً لبيته، فقام بزيارته في متجره، ولما رآه السيد علي قام مرحباً به قائلاً: “أهلاً بقدومك يا بو مدعج وعسى حاجتك عندنا ونقضيها”، وهذه العبارة معروفة عند الكويتيين عندما يزورهم ذو المكانة الذي لم يتعود زيارتهم، فقال: “لقد سمعت أنك اشتريت البيت المجاور لبيتي، فهل ستسكنه؟ وهذا الذي أريده وأتمناه، أم أنك ستستثمره مأجوراً وهذا ما أخافه لأني أخاف من جار السوء، وأرجو إن كان الثاني أن تبيعني البيت بالفائدة التي تريد”.
فقال السيد علي: لا، إن زيارتك لي هي الفائدة الكبرى، واعتبر البيت مسجلاً باسمك.
وعلم المرحوم علي العليمي وهو من خيار الناس بما جرى بين السيد علي ومحمد المدعج، وأن ملكية البيت آلت إلى السيد محمد المدعج فذهب إليه قائلاً: إنني أبحث عن دار وجار، وقد وجدت الجار الذي أتمناه والذي هو أفضل من الدار، فهل تبيعني البيت بالفائدة التي تريد؟
فقال محمد المدعج: “اعتبر البيت قد سجل باسمك، ولا أريد عليه فائدة أكثر من جوارك”.
وهكذا كان أهل الكويت في الماضي، يتسارعون إلى بذل الخير للغير، ويحرصون على محبة الجار والإحسان إليه والتعامل بالحسنى معه، وكثيراً ما تكررت في كويت الماضي مثل هذه القصص للبحث عن الجار قبل الدار، والبيع بنفس الثمن للجار، وعرض البيوت والأراضي على الجار أولاً قبل عرضها في الأسواق، رغبة وده و الإحسان إليه .
وهكذا كانت حياة التاجر محمد المدعج أحد أبناء هذا الجيل الفريد سلسلة من القيم والمثل الفاضلة والأخلاق العالية، رحمهم الله رحمة واسعة وجعل مثواهم جنات النعيم.