أصدر العميد السابق وأستاذ الاقتصاد السياسي، د. خالد المنوبي، كتاباً جديداً باللغة الفرنسية يقع في 400 صفحة من القطع المتوسط، تحت عنوان “قرن من السقوط السياسي في تونس”، (Un siècle de déchéance politique en Tunisie) في شهر أكتوبر الجاري، موضوع الكتاب حول “الاختراق الفرنسي” لتونس عبر الحزب الذي قاد معركة الاستقلال، وحول التحكم البوليسي والزعامات الكاذبة منذ استقلال تونس حتى اليوم، واستند الكاتب في ذلك إلى قراءة جديدة للوثائق والبحوث التاريخية.
جرت وقائع الحادثة بقصر قرطاج في مارس 1978م عندما استقبل السيدة ماري تيراز إيفون فارج، أرملة دي جيران دي كايلا، وقد جرى استقبال هذه السيدة عندما حضرت إلى تونس لإتمام عملية بيع عقار كائن بضاحية باردو ورثته عن زوجها، وقدرت الصفقة بثمانية آلاف دينار تم تنزيلها في حساب البائعة بالبنك الفلاحي، لكن من هي هذه السيدة؟ إنها أرملة قاضي التحقيق العسكري الذي وجه تهم “النيل من الأمن الداخلي والخارجي للدولة” للحبيب بورقيبة، إثر أحداث 9 أبريل 1938م.
أسئلة حارقة
استقبل بورقيبة هذه السيدة في قصره، وكانت صحبة مسؤول إداري مكلف بعملية البيع، حضر المرافق جلسة استقبال أرملة القاضي العسكري الفرنسي الذي توفي سنة 1956م، وغادر القصر دون الضيفة التي قضت ليلتها في قصر قرطاج، فكيف تبيت المرأة في نزل، والرئيس صديق العائلة منذ عقود؟ يطرح الكاتب التساؤلات الآتية: لماذا لم تؤمم دولة الاستقلال أملاك هذا القاضي الذي كان مكلفاً بتثقيل لائحة التهم لبورقيبة؟ لماذا لم يبع هذا القاضي أملاكه في تونس قبل الاستقلال؟ وهل كان علم أنّ “صديقه” بورقيبة سيكون رئيس البلاد؟ ولماذا انتظرت هذه السيدة 22 عاماً للتصرف في أملاكها؟ ولماذا لم تبد أي اعتراض على التغييرات التي أجريت على العقار من قبل شاغليه؟
يذهب خالد المنوبي إلى أنّ “المجاهد الأكبر” (يحلو لبورقيبة إطلاق هذا اللقب على نفسه) لم يكن ليقدم على ذلك، لو لم يستتب له الأمر للرئاسة مدى الحياة، بعد تخلصه سنة 1974م من منافسيه أحمد المستيري، ومحمد المصمودي، مفسحاً المجال للهادي نويرة وحيداً في السباق لخلافته، كما رسمت فرنسا منذ الثلاثينيات، وقد جرت الصفقة بعد شهرين من أحداث 26 يناير 1978م النقابية الدموية، ليستعيد “الزعيم” دعم فرنسا القوي لرجلها الوفيّ.
آليات البحث
يقرأ خالد المنوبي النصوص التاريخية والسير الذاتية والوثائق حسب مسار الشخصيات ومألات الأحداث، ليكشف عن أساليب التضليل التي صنعت أحداثاً وزعامات، بإدارة من المستعمر الفرنسي، فقد يتوهم البعض في قراءة مسار “الزعامات” (الوطنية) أنّه يتابع مكافحاً للاستعمار تعرض للسجن والنفي والاعتقال، لكنّ خالد المنوبي يتوقف عند الحد الفاصل بين الحقيقة والزيف المركّب بعناية، لتتضح قصة السقوط السياسي الذي رافق مسار “الحركة الوطنية” ومسار النضال “الراديكالي” ضد السلطة في دولة الاستقلال، سقوط عنوانه الاختراق.
يعود الكاتب في تأسيسه لأطروحته عن الاختراق إلى غداة الحرب العالمية الأولى، معتبراً أنّ الشعب التونسي حقق إنجازاً تاريخياً سبق به كافة الشعوب المستعمرة بعقدين من السنين، على الأقل. وتمثل في:
الظفر بعائلة مالكة مناضلة وقف عاهلها الناصر باي مع شعبه.
وتأسيس حزب من أجل إعادة تفعيل أول دستور في العالم الإسلامي، ألا وهو دستور 1861، وتأسيس مركزية نقابية وطنية انطلاقاً من القاعدة، وقد حمل هذا الإنجاز فرنسا المستعمرة على التسليم بعدم جدوى الإدارة المباشرة، وعلى الشروع في تحضير أحد أعوانها، طيلة أكثر من عقدين ليكون المستبد في خدمتها بعد الاستقلال، وفق الكاتب.
حزب فرنسا
ويرى خالد المنوبي أنّه بعد محاولة تحريض بعض قادة حزب الدستور على الانشقاق وتأسيس حزب أقل معارضة للاستعمار، أيقنت فرنسا ضرورة تأسيس حزب دستور جديد يكون من صنع شرطتها على الأسس التالية:
أولاً: عقد مؤتمر أوّل أغلبيته من أعوان فرنسا، وكذلك قيادته التي من شأنها أن تنسحب غداة المؤتمر الثاني باستثناء العون المعدّ للاستخلاف.
ثانياً: تشديد القمع لتبرير إفراز قيادات متجددة في ظل سرّية “مصطنعة” تكون فيها اليد الطولى للأعوان القدامى والجدد، فيحصل التحكم بالحزب المزعوم بواسطة عدد قليل نسبياً من الأعوان، ولمّا حصل الاستقلال واستأثر المستخلف وحزبه المصطنع بالحكم المطلق، انتقلت البلاد من الاختراق الفرنسي القوي للحزب، إلى الاختراق الفادح للبلاد، بما أدّى إلى إفراغ المؤسسات الاجتماعية من محتواها، وقد تطلبت هذه المواصلة في التحكم البوليسي تأمين انتداب أطر بوليسية جديدة ذات مستوى مرتفع، وقد حصل ذلك بإطلاق زعامات جامعية ويسارية كاذبة، جلّها يدار من جهاز “أمن الدولة” بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد وقع إعدادها ليتم بثها في كامل ثنايا المجتمع، مع توظيف الإدارة والمؤسسات العمومية حتى يكون جزءاً غير هيّن من أعوانها، أعواناً لجهاز “أمن الدولة”، مع الظفر بالغطاء الضروري.
وإلى جانب ذلك، تم رصد جزء من ميزانيات المؤسسات العمومية والوزارات لتأجير أعوان لفائدة جهاز الأمن، ويربط الكاتب قصّة الاختراق، بمرحلة ما بعد ثورة 17 ديسمبر 2010 – 14 يناير 2011، مؤكّداً أنّه بعد الثورة حصلت إعادة إعادة تدوير لأولئك الأعوان، الذين صنعتهم الأجهزة الأمنية، في عملية التخريب طلباً لصرف الشعب عن محاسبة جلاديه، وبطبيعة الحال لم يعد هذا التخريب رسمياً، حتى وإن رعته “الدولة العميقة”، وفق الكاتب.
ضجة كبيرة
أحدث الكتاب حتى الآن ضجة كبيرة، وقال الناشر كارم الشريف: إن بعض المكتبات المحسوبة على الدولة العميقة، وحزب الاستبداد، أو حزب فرنسا، كما يسميه البعض، امتنعت على بيع الكتاب، رغم الأقبال الكبير، وقال: إن الكتاب قراءة محايدة، لجانب من تاريخ تونس، بعيداً عن الدعاية و”البروباجندا”، والتدليس والمزايدات والمغالطات التاريخية، وهو مساهمة في إعادة كتابة التاريخ المعاصر الذي غلب عليه التزوير.
الكتاب قراءة جديدة بمجهر بحث فريد، ربّما أحدث صدمة لدى البعض، يخشى أن تكون حاجزاً أمام إعادة القراءة بحكم العواطف والولاءات، وقد تكون صدمة تحفّز المؤرخين أنفسهم على إعادة بناء ما بين أيديهم من وثائق ودراسات.