عندما اندلعت تظاهرات في قطاع غزة تحت شعار “بدنا نعيش”، وقوبلت بتفريقها بالقوة، تعالت الصيحات حول الحق في التظاهر السلمي. وعدّت الإجراءات التي استُخدمت في تفريقها في خانة القمع والبطش وانتهاك حقوق الإنسان وحرية الرأي وصولاً إلى الإدانة، وما شئت بعدها من تجريم ومحاسبة.
على أن الذين أخذوا هذا الموقف يقرّون بأنهم مع المقاومة في قطاع غزة، وضد الحصار، وما أُنزل من عقوبات. وما دام هذا موقفهم فإن من حقهم إدانة المساس بحق التظاهر السلمي الذي يُعدّ في نظرهم، كما مارسوا، حقاً أعلى من أي حق ومن أي اعتبار.
ولكن ماذا تعني المقاومة وماذا يعني الحصار وأين حقهما؟ إن الواقع القائم في قطاع غزة يتجسد في مئات الكيلومترات من الأنفاق استعداداً لحرب قد تقع في أية لحظة، ويتجسد في سلاح صاروخي بالآلاف أو أكثر، وبعشرات الآلاف من المقاتلين تحت السلاح وعلى أهبة القتال. الأمر الذي يعني، بلا مواربة، أن قطاع غزة في حالة حرب، وفعلاً خاض ثلاث حروب، وتعرض لعشرات أو مئات الغارات خلال الاثنتي عشرة سنة الماضية، وما زال.
ولأن قطاع غزة في حالة حرب مع العدو الصهيوني، بل في حرب عملياً، وتحت حصار خانق طيلة الاثنتي عشرة سنة الماضية، وزاد تفاقماً خلال الأشهر الأخيرة حين أنزلت سلطة رام الله سلسلة من العقوبات زادته جوعاً وزادت أضعافاً من ضائقته المعيشية والاقتصادية والسياسية والنفسية. وهذا يعني أن قطاع غزة في حالة حرب. بل يواجه حرباً عملياً. ولا ضرورة للتذكير بأن الحصار حرب، وقطع الأرزاق مثل قطع الأعناق.
الذين اتخذوا ذلك الموقف من تظاهرات “بدنا نعيش” ومن إدانة التصدي لها، من حيث المبدأ، وليس بسبب الإفراط في استعمال القوة. لأن جوهر الموقف هو عدُّ التظاهر في حالة قطاع غزة حقاً مشروعاً، وأي اعتراض عليه مرفوضاً (كذلك سيعترضون على هذه المقالة)، وأي تعرُّض لتفريقه أو منعه ولو بالورود والقبلات يُعدّ انتهاكاً للحق المقدس في التظاهر في المطلق، وفي كل الحالات، وانتهاكاً لحق إبداء الرأي، ولحقوق الإنسان.
ولكن السؤال لكل هؤلاء الذين اتخذوا هذا الموقف: قولوا لنا حالة واحدة عرفها التاريخ سَمح فيها حزب من الأحزاب المسؤولة، أو دولة من الدول حين يكون الوضع في حالة حرب حامية وفي حالة حصار، بأن يمارَس حق التظاهر وتحت شعار “بدنا نعيش”. ماذا كان سيفعل ستالين لو قامت تظاهرة، في ستالينغراد أو لينينغراد وهما في حالة الحرب والحصار، وراحت تطالب السلطة المقاتلة “بدنا نعيش”؟.
لا تقولوا هذا ستالين لا يصلح مثلاً جيداً، لو كان لينين أو ماوتسي تونغ أو هوتشي في الموقف ذاته، ماذا كانوا سيفعلون؟ أو هل كان من الممكن عدُّ التظاهر في مثل هذه الحالة حقاً مشروعاً وفوق كل الحقوق؟ كل اليساريين يعرفون الجواب عن هذا السؤال، أو عن هذين السؤالين: ماذا كانوا سيفعلون؟ وهل كانوا سيرون التظاهر حقاً مشروعاً فوق كل حق؟.
طبعاً تلك الأمثلة ليست حجة جامعة مانعة لأنها تخص اليسار. حسناً، يمكن توجيه السؤال، أو السؤالين، للسيد تشرشل عندما كانت بريطانيا محاصرة والطائرات تقصف لندن، والحرب مستعرة، ثم قامت تظاهرة في لندن ترفع شعار “بدنا نعيش”، ماذا كان سيفعل بها؟ والأهم هل كان سيراها حقاً مشروعاً فوق وحدة الصف وحق الصمود وفوق الحرب نفسها؟.
وفي الإسلام تصوروا كيف سيكون الموقف في حصار المدينة، وهي في حالة الحرب، وكان المسلم يضع الحجر على معدته ليخفف من جوعه، ثم قامت تظاهرة شعارها: “بدنا نعيش”؟.
بكلمة: إن هذا الموقف الذي لا يعدّ التظاهر في حالة الحصار وحالة الحرب، خصوصاً، إذا كان العدو متفوقاً وأمامك مهمة الصمود، حقاً مشروعاً فوق كل حق، لن تجد حالة واحدة تسوغه أو تدافع عنه، عدا في الحالة الفلسطينية المستباحة من كثيرين داخلها ومن حولها. فالبعض وصلوا إلى حد عدِّ الخيانة وجهة نظر، والبعض حتى إلى حد رأى فيه التنسيق الأمني مع العدو مقدساً، وكثيرون وصلوا إلى حد وصف تغليب الصراع الداخلي على الصراع مع العدو كثورية وحق فوق كل الحقوق.
وبالمناسبة، إن كاتب هذه السطور، سُئل سابقاً عن التظاهر في رام الله، فنَصح أن تتجه ضد العدو الصهيوني، وليس ضد سلطة رام الله على الرغم من أنها ليست تحت حصار وليست في حالة حرب مع العدو الصهيوني، بل هي في حالة تنسيق أمني معه؟ ولها يد في إرشاد العدو على مخابئ مقاومين مطلوبين، كما حدث في حالات، مثلاً باسل الأعرج وأخيراً الشاب عمر أبو ليلى. أما السبب في ذلك فيبدأ بعدم تغليب الصراع الداخلي مهما يكن حاداً على الصراع مع العدو.
أما السبب الثاني فيرجع إلى فهم الشعب الفلسطيني ومكوناته العائلية والعشائرية والاجتماعية. وهذا من دروس الثورة الفلسطينية 1936-1938 حين انقسمت القرى إلى قيس ويمن بسبب الصراع الدموي الداخلي.
وعوْداً إلى موضوعنا فإن جواباً سيبرز حالاً ليقول: تريدون تكميم الأفواه بحجة المقاومة والحصار. وهذا يذكّر بما نال خليل الوزير “أبو جهاد” من تجريح حين رفع في الانتفاضة الأولى شعار: “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”. وقد تعرّض الشعار للهزء ممن لا يريدون المعركة أصلاً.
إن القول بعدم التظاهر في قطاع غزة بسبب الحصار والحرب والحرص على المقاومة ومسيرات العودة لا يعني تكميم الأفواه، وإنما هنالك وسائل للتعبير عن أية ظلامة أو ظلم أو عن أي حق هضم أو عن أي خلافية غير التظاهر، وإن كان سلمياً. لأن ما من أحد يعرف إلى أين يقف هذا التظاهر أو إلى أين ينتهي ولا كيف يُستغل. وهو من جهة أخرى، مدعاة للصدام لا محالة. وقد أثبتت التجربة العملية ذلك في قطاع غزة المحاصر، والذي في حالة حرب، وزاد حالة الانقسام الداخلي.
وقد أثبتت ذلك أيضاً التجارب العالمية في حالة الحرب. ولا يستثنى إلا الدول العظمى عندما تخوض حرباً خارج بلادها عبر المحيطات فقد تسمح بتظاهرة داخلية محدودة وصغيرة. ولكن في حالة البلد المحاصر، وفي حالة حرب، فلن تجد مثلاً يعزز دعم التظاهر وعدَّه حقاً لا يُمس. هذا إذا لم تجد مواجهة له إن حصل يشيب الولدان من هولها. طبعاً هذا لا يعني تسويغاً لاستخدام القوة بأكثر من حدها الأدنى، مع أولوية في الوضع الفلسطيني للدعوة للحوار والجنوح إلى العدل والتوافق والوحدة الوطنية.
فالمطلوب في الحالة الغزاوية تجنب التظاهر من جهة، وتجنب العنف من جهة أخرى، والعودة إلى الحوار، والوصول إلى التشارك في إدارة القطاع، وتعزيز الوحدة الوطنية للحفاظ على المقاومة واستمرارية مسيرات العودة الكبرى.
المفكر العربي والإسلامي. والأمين العام للمؤتمر الشعبي لفلسطيني الخارج (*)
المصدر: TRT عربي