في نوع من الرصد التربوي الساخر لهموم الأطفال داخل الأسر والمدارس، كتب الأديب التركي عزيز نيسن روايته “أطفال آخر زمن”، معتمداً في قالب السرد لوقائعها على رسائل متبادلة بين طفلين: أحمد تارباري، وزينب يالكر.
يعرض نيسن في عمله عدداً من العيوب والنقائص التي تؤثر حتماً على الحياة الأسرية، وتسيء لعالم الأطفال، وجلها مرتبط بغياب فضيلة الإنصات، وتحميل الطفولة الهشة وزر هموم الكبار وآمالهم وإخفاقاتهم، ورغم الجو الكوميدي الذي يطبع فصول الرواية، فإنه ضحك كالبكاء، وتشريحٌ قاس لواقع الأبناء داخل أسر تراجعت فيها المودة والحميمية أمام مظاهر التسلط والعبث بمستقبلهم، بذريعة أن الكبار أشد حرصاً وفهماً، ودراية بالحال والمآل.
لكن يظل الهوس بالإنجاز من أشد السلوكيات التي يحتج عليها نيسن بلسان الصغار، ويُنبه الآباء والمدرسين إلى خطورة الضغط والإلحاح المتزايد على الطفل ليكون ناضجاً، وخارقاً، وكتلة متجددة من الإنجاز والأداء العالي الذي يحقق المستحيل.
يقول على لسان إحدى شخصيات الرواية: “قضى مدة وهو يقرأ سير حياة نوابغ وعظماء الرجال، وعرف الطريقة التي يتربى عليها النابغة، والآن يربي ابنه تربية النوابغ، وهو نفسه، حين عرف أن العظماء لا يتزوجون مبكرين، فقد أخر زواجه وظل عازباً حتى بلغ الخمسين كي يُورث ابنَه النبوغ! وحيث إن النوابغ يكونون في العادة ذوي قوام نحيف، فقد كان يتحكم في تغذية ابنه، ويمنعه من تناول الغذاء الكامل؛ كي يكتسب قوام النوابغ وسيماهم”.
الأديب التركي عزيز نيسن
إن تحويل الإنجاز إلى ثقافة مجتمعية شرط أساسي لبلوغ التغيير الحضاري ضمن مستوييه الفردي والجماعي، إلا أن هناك بالتأكيد فروقاً جلية بين الإنجاز كما تعرضه بحوث الشخصية والدراسات المتعلقة بعلم النفس الاجتماعي، وبين التمثلات السائدة اليوم داخل الأسر، التي يغذي بعضها ميول الفرد للتحرر من القيم الدينية والأخلاقية، ومقومات الشعور الوطني باعتبارها عوائق تحد من الانفتاح والعالمية، إنها فروق يتوجب على الأسرة المسلمة أن تضعها في الحسبان وهي تدفع بصغارها إلى مضمار التميز وتحرير المواهب والطاقات في مختلف مجالات الحياة اليومية.
يندرج الإنجاز ضمن منظومة الدوافع الإنسانية التي تستحث الفرد للتفوق وتأكيد الذات، والطموح إلى بلوغ مصادف النماذج المجتمعية التي توصف بأنها مرتفعة الأداء، كالعلماء والمخترعين وغيرهم، وينشأ عادة من توتر داخلي يثير سلوك الفرد ويدفعه لتحقيق أهداف معينة، لكنه بحاجة كذلك إلى معايير يكتسبها من بيئته الاجتماعية، خاصة الثقافة الأسرية المحفزة على التفوق والتميز.
وينبني الإنجاز على خمسة مكونات أساسية تتمثل في: الشعور بالمسؤولية، والسعي نحو التفوق، والمثابرة، والشعور بأهمية الزمن، ثم التخطيط الجيد للمستقبل(1)، ولو عرضنا ما يتم تداوله اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي، لتبين أن أغلب ما تحتفل به الأسر المسلمة باعتباره إنجازاً من لدن الصغار، قلما يراعي تلك المكونات أو يحفل بها، فوَضْعُ الصغار في دائرة الضوء، وتسليط الكاميرا عليهم أهم بكثير من القيمة المضافة لجهودهم، كما أن تحقيق قدر من التعاطف والقبول الاجتماعي بات هو المؤشر على الإنجاز والتفوق.
في سياق تحكمه المنافسة المحتدمة، والسلطة المتزايدة لمنصات التواصل الاجتماعي على إعادة تشكيل القناعات، لم يعد مطلوباً من الصغار تحقيق نتائج فقط وإنما يُشترط أن تكون مميزة، وأن تؤشر على نبوغ أو أداء إبداعي يفتح أبواب النجومية، لكن بلوغ هذا المسعى يستلزم أولا تنمية حس المسؤولية لدى الطفل منذ سن مبكرة، أو بمعنى أصح تشجيعه على تحمل المسؤولية متى أبدى استعداده لذلك، وحفزه للقيام بنصيبه من العمل داخل المنزل. فما تعتبره بعض الأمهات مضايقة وإزعاجا وفوضى ليس سوى تعبير عن “إنجاز” مبكر، واستعداد للتعاون وتنمية القدرات الابتكارية.
الخطوة الثانية هي تعميق الإحساس بأهمية الزمن في حياة الأفراد والمجتمعات، وتعويد الطفل على أن يتعامل مع الأربع وعشرين ساعة يوميا باحترافية، تماما كما يتعامل مع ثروة يملكها الجميع لكن يختلفون في سبل إنفاقها، ومن المؤسف حقا أن يرث صغارنا تقاليدنا الخاصة في إضاعة الوقت، وتبذير ساعات العمر في غير فائدة. وأن يكون حرصنا على أن يكبروا بسرعة أشد من سعينا لأن ينعموا بطفولتهم كما يجب!
والخطوة الثالثة في رحلة الإنجاز تتمحور حول بذل الجهد الصادق، وتعويد الطفل على المثابرة والإصرار باعتبارهما السند الحقيقي للموهبة. إن جهود الآلاف من المبدعين عبر التاريخ لم تكن لتُكلل بالنجاح لولا المثابرة، والإصرار على المضي قدما رغم العوائق التي تنتصب أمامهم في مختلف مراحل الإنجاز.
أما الخطوة الرابعة فترهن الإنجاز بالقدرة على التخطيط الجيد للمستقبل، ودراسة الواقع بشكل يسمح للطفل بصياغة توقعات منسجمة مع محيطه، كي لا يفقد حماسه أو يتعرض للإحباط. ومن جملة العوامل التي تؤثر على التوجه الإنجازي عموماً: توقعات الفرد إزاء احتمال حدوث النجاح والفشل، وعدم انسجام الدافع للإنجاز مع الثقافة السائدة داخل المجتمع.
في حين ترتكز الخطوة الأخيرة على السعي نحو التفوق ضمن المعايير التي يكتسبها الطفل من ثقافته. بمعنى ألا تفضي الرغبة في الإنجاز والتفوق إلى خرق المواضعات السائدة داخل المجتمع، من قيم وأعراف وقوانين، وألا يُنمي الطفل نزوعا أنانيا يضفي على الإنجاز سمات الشراسة والتحايل، والضرب تحت الحزام.
ما من أسرة إلا وتطمح لأني يحظى ابنها أو ابنتها بمكانة مميزة في المجتمع، لكن ثقافة الإنجاز التي نرجو لها الانتشار والرسوخ في مجتمعاتنا، تحرض على طرح سؤال الجدارة، بمعنى هل ابني جدير بتلك المكانة؟ لأن الجدارة كما يقول الدكتور مصطفى حجازي لا تمنح، بل هي تصنع من خلال الإنجاز المتميز، فالتميز في الأداء هو صانع القيمة، ومُحدد المكانة، وهو سر التحول الثقافي الذي أنجزته المجتمعات المتقدمة، وجعل نهضتها وريادتها ممكنة.
__________
الهامش
(1) د. عبد اللطيف خليفة، الدافعية للإنجاز، دار غريب للنشر، القاهرة.
(*) المصدر: “إسلام أون لاين”.