عند الحديث عن العلمانية، كثيرًا ما يتركز الحديث على كونها مُصاحِبةً للديمقراطية والاكتفاء بعدها تصورًا يرى لزوم إبعاد التشريعات الدينية عن الحياة السياسية، دون أن يتعمق تأصيل المفهوم لما هو أعمق وأخطر، وإن فُعِل كان ذلك على شكل كتبٍ قد تُتَحَاشى لكثرة صفحاتها أو للغتها الصعبة أو للسببين معًا.
ومن باب تبسيط المفاهيم وتمكين القارئ من مدخلٍ يسهِّل عليه الاستزادة في الباب، يأتي هذا الموضوع مركِّزًا على مسألةٍ مهمةٍ هي علمنة اللغة واستغلالها كمدخلٍ لعلمنة التصورات لتسهيل نشر العلمانية في المجتمعات.
فماذا نقصد بعلمنة اللغة؟
ما دامت العلمانية تعني: فصل الدين عن الدنيا أو إبقاء تشريعات الدين بعيدةً عن تنظيم أمور الدنيا، فمفهوم علمنة اللغة ليس ببعيدٍ عنه، ومعناه: إبعاد الدين عن صياغة التصورات والمفاهيم والمصطلحات الدارجِ استخدامُها في عمليات التواصل في كل الميادين بما فيها الميدان الديني ذاته.
وبكلماتٍ أوضح: حصر استخدام المصطلحات ذات الحمولة الدينية في الحقل الديني بعد إعادة صياغتها أو فصلها عن هذا الأصل وربطها بمفاهيمَ علمانيةٍ حتى لا تعارض الشؤونَ الدنيوية ولا تفرض حمولتها الدلالية على مستخدميها.
ما خطورة علمنة اللغة؟
تتجلى خطورة علمنة اللغة في التأسيس لعلمنة المجتمع بنعومةٍ فلا ينتبه المجتمع لجنوحه للعلمانية إلا وقد أَصَّلَها وتقبل نسخةً منها بل وربما يدافع عنها، وهذه العملية تسهل على المنظرين للعلمانية نشر تصوراتهم دون أن يصطدموا بقوة اللغة ودلالات مصطلحاتها ذات المرجعية الدينية فيتفادوا النقاش حول المفاهيم أو التعامل مع مصادمتهم ثقافة الشعب وينتقلوا مباشرةً إلى تسهيل شيوع الاستخدامات العلمانية للمصطلحات والتأسيس للفصل بين المفاهيم الدينية والدنيوية.
وتركيزنا هنا على اللغة العربية دون سواها لما تتميز به من ثبات دلالات مصطلحاتها وصعوبة علمنتها لاتصالها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه وللنجاح في ضبط معانيها قبل بلوغ “عصر الأنوار” الذي عُلْمِنَتْ فيه اللغات الأوروبية، ولعل انتباه العلمانيين لذلك، كان الدافع الرئيس لتركيزهم على تغريب المجتمعات الإسلامية والدفع بلغاتٍ أجنبيةٍ لمزاحمة العربية تحت مسمى الانفتاح على الآخر وتعلم لغات العلم.
مع تعمد الخلط بين “استعمال لغةٍ أجنبيةٍ كلغةٍ للتعلم” و”تعلم لغةٍ لترجمة الأفكار والتصورات”، فالأولى تقتضي اعتماد مفاهيم لغةٍ أجنبيةٍ وتصوراتها لاكتساب المعارف وبناء تصورات الأفراد والمجتمعات أما الثانية فحدُّها تعلُّمُ لغةٍ ثانيةٍ بعد اللغة الأم لتسهيل التواصل مع الأجانب الذين يتحدثونها وتبادل المعارف معهم.
أي أن التعلم بلغةٍ أجنبيةٍ سيورث مستخدميها مفاهيمها وتصوراتِها وثقافتها، أما تعلُّمُ اللغة الأجنبية بعد اكتساب اللغة الأم سيزيد الشخص لسانًا يكتسب به المعارف لإغناء لغته وينقل به من لغته ليشارك العالم كنوزها.
فما يتجاهله الكثيرون أن اللغة متصلةٌ بثقافة أهلها لتعكسها وتخدمها، وكلما كانت تلك الثقافة أقرب لتصورٍ بعينه، عُدِّلت اللغة لتخدم وتعكس هذا التوجه. وبالحديث عن الثقافة فنحن نحيل إلى مجموع التصورات والأفكار والقيم التي يتشاركها شعبٌ بعينه، فهي التي تصنع هوية الطفل، فإن غُذِّيَ منها تبناها وعدها هويته، ولو غُذِّيَ بأخرى لاستعاض بها عن ثقافة محيطه، وهذا ما يحدث أساسًا مع اللغات الضعيفة الجامدة أو مع لغات المهزومين حضاريًا.
فإن اتصلت ثقافةٌ بدينٍ نتَجَ عنهما لغةٌ ذاتُ حمولةٍ دينيةٍ، أمرٌ سيكون له الأثر البليغ على هوية المتحدثين بها ممن اكتسبوها في صغرهم واتخذوها أداةً لاكتساب تصوراتهم ومعارفهم، فالعربي ينظر لمفهوم “الصدقة” خلافَ ما ينظر إليه الفرنسي مثلًا أو الإنكليزي، فالمفهوم مختلفٌ بين اللغات الثلاث أي بين الثقافات الثلاث. وما قيل عن مفهوم “الصدقة” يُقال عن غيرها من المفاهيم.
ومما سبق يمكن أن نفهم خطورة علمنة اللغة العربية، فكونها معبرةً عن ثقافةٍ امتزجت بالدين بل وتبنت مفاهيمه، يفرض علمنتها لفصلها عن الدين وتسهيل علمنة المجتمعات المسلمة، أو على الأقل عزلها لفائدة لغاتٍ أجنبيةٍ أو لهجاتٍ محليةٍ تفتقد لقوتها وعلاقتها بالدين نفسه. وكون اللغة أداةَ التفكير الأولى والمُسهِمة في صنع السلوك والمتعاملة مع المفاهيم والتصورات الداخلية والخارجية ففصلها عن الدين سيؤدي كنتيجةٍ حتميةٍ إلى التأسيس لفصل الدين عن الحياة وعدِّه أمرًا ثانويًا لا الرافدَ الرئيس والمنبع الأساس لثقافة المسلم وتصوراته.
كيف تجري العملية؟
تختلف الطرق المستخدمة اعتمادًا على قوة اللغة المراد علمنتها وقوة الشعب الذي يتبناها، لكن وقفنا حتى الآن على أربع طرق:
دعم لهجةٍ محليةٍ بذاتها أو لغةٍ قديمةٍ ما تزال مُستخدمةً في مناطق متفرقة.
وغالبًا ما تكون الطريقة المفضل استخدامها، ويكفي أن تعمل القوى العلمانية على استخدام هذه اللغة أو اللهجة (شريطة اقتراب معانيها من معاني اللغة المستهدفة) بصفةٍ متكررةٍ في الإعلام واعتمادها لإنتاج وتبادل ونقل الثقافة الشعبية حتى يُتَعَوَّدَ عليها، وقد تُستخدم في اكتساب المعارف حتى.
دعم التنوع اللغوي وكثرة اللهجات محليًا.
والهدف منها تقليل قوة اللغة المستهدفة ونفوذها وقدرتها على صياغة تصورٍ موحدٍ يلتف حوله الشعب. ولإنجاحها يُفتح الباب أمام تعلم لغاتٍ أجنبيةٍ مختلفةٍ وإحياء لغاتٍ ولهجاتٍ محليةٍ قديمةٍ أو حديثةٍ حتى يتفرق الشعب إلى مجموعاتٍ لكلٍّ منها ثقافتها التي تعمل على المحافظة عليها بعدما تبنتها كهوية.
وبضمان ضعف اللغة المستهدفة وقلة العاملين على دعمها، يمكن الانتقال إلى علمنتها بدعوى تحديثها.
استهداف اللغة مباشرةً والعمل على علمنتها.
وقد تمر هذه العملية بست مراحل:
1- صنع المصطلح أو المفهوم المعلمَن الجديد.
2- الإكثار من استخدامه من طرف المثقفين وعِلْية القوم.
3- إدخاله للمناهج الدراسية والنقاشات العامة والشعبوية.
4- حصر استخدام المصطلح أو المفهوم ذي الأصل الديني في الحقل “الديني” (حصر استخدامه في باب العبادات والتراث مثلًا) فقط وتقييد معناه به.
5- التقليل من استخدام المصطلح ذي المرجعية الدينية وإظهاره على أنه متجاوزٌ مع إحراج مستخدميه.
6- تقديم المصطلح أو المفهوم الجديد كبديلٍ حديثٍ مواكبٍ للعصر وتطلباته.
استعمال لغةٍ أجنبيةٍ معلمنَة لاكتساب المعارف.
والهدف هنا إدخال لغةٍ أجنبيةٍ معلمنةٍ إلى المدارس واعتمادها لبناء تصورات الأجيال الناشئة لضمان وجود “طابورٍ خامسٍ” يمكن الاعتماد عليه مستقبلًا لزيادة درجة علمنة المجتمع. كما يحدث في المغرب حيث تحاول النخبة الفرنكوفونية فرض اللغة الفرنسية كلغةٍ للتعليم ابتداءً من الصفوف الأولى.
وبذلك تضعف اللغة المستهدفة ومعها يضعف المجتمع الذي كان يتبناها ويعتمد عليها دون غيرها لصنع ثقافته الخاصة، وينقسم لأقوامٍ تتبنى تصوراتٍ متباينةً بلهجاتٍ أو حتى لغاتٍ مختلفة.
وتجد اللغة المستهدفة نفسها دون دعمٍ كافٍ من أهلها فتسهُل علمنتها وفصلها عن أي أصلٍ ديني. وبإحدى هذه الطرق يسهل على العلمانيين تغيير تصورات المجتمع دون الاضطرار إلى مواجهة قوة اللغة ولا الاصطدام بتصورات المجتمع وثقافته المعتمدة على أسسٍ دينية.
من أمثلة علمنة اللغة
البداية كانت بمفهوم الدين ذاته، الذي حُصِر إبان “عصر الأنوار” في العبادات التي تكون بين العبد وربه، ويُفصل عن مفهوم العقيدة، ليظهر من قد ينتمي لدينٍ بعينه وله عقيدةٌ تحوي ما يصادم هذا الدين كالنصارى الذين يتعاملون بالربا رغم تحريم دينهم للتعامل به، وكأن العقيدة في تصورهم قد تتكون من روافدَ متعددةٍ يجسد الدين (العبادات والأخلاق الحميدة) إحداها.
أما في العربية وبالضبط من منظور الإسلام فالعقيدة جزءٌ من الدين ولا يمكن الفصل بينهما فتكون عقيدة الإنسان مقيدةً بدينه. وهذا المعنى محميٌّ باللغة والدين في الوقت ذاته، وتغييره يتطلب إما تغيير الدين أو اللغة وهو ما كان متعذرًا حتى وقتٍ قريب، قبل أن تضعف قوة اللغة العربية بجهل أصحابها ويُفتح الباب أمام مطالباتٍ بتحديث اللغة لمواكبة العصر فيظهر من يدخلون من هذا الباب لإعادة تفسير الآيات والأحاديث بما يلائم التصورات المنحلة.
ولْنتوسعْ أكثر في طرح الأمثلة من محيطنا، ولنأخذِ الربا مثلًا والذي لا يختلف المسلمون حول تحريمه، أو على الأقل كانوا لا يفعلون، أما الآن فقد بدأ المصطلح يترك بابه العام لمصطلح “الفوائد البنكية” لينحصر استخدامه في الباب الديني فقط، وقد تجد نفسك مستمعًا لمسلمٍ يعمل في بنكٍ ربويٍّ وهو يستخدم اللفظ العلماني عوضَ الذي وضعه له دينه، ولو استخدمت لفظ “الربا” لوجدت منه امتعاضًا ورفضًا، سواءٌ كان صريحًا أو مخفيًا.
فعقيدته كمسلمٍ تفرض عليه الخضوع لأمر الله تعالى وتجنب التعامل بالربا، وهذا جزءٌ من دينه إلا أن علمنة المصطلحات انتهت به إلى تبني عقيدةٍ اختلط فيها الدين بمبادئ الرأسمالية التي لا تجد حرجًا في التعامل بالربا، فالدين عنده صلاةٌ وزكاةٌ وصيامٌ وتحلٍّ بالأخلاق الفاضلة، أما ما تعلق بالتشريعات المنظِّمة للحياة فتلك مكانها كتب التراث وتنفيذها منحصرٌ في العصور الغابرة. وحتى لو سلم بتحريم الربا فقد يناقشك الاختلاف بين مفهومه ومفهوم الفوائد البنكية باحثًا عن تقرير وجود فرقٍ بينهما.
ومن المثال السابق يظهر لنا مفهومان تعودنا عليهما أو بصفةٍ أدق عُوِّدْنا على الاعتقاد بوجودهما: المسلم الملتزم وغير الملتزم. فالمسلم الذي يعد الدين مصدر ثقافته وتصوراته وعقيدته منطلقًا من فكرة أن الله خالق كل شيءٍ وهو من يحدد قصد الحياة وغايتها، يُعتبر ملتزمًا.
أما من يفصل بين الدين والثقافة والدنيا فيعد الدين أحد روافد الثقافة والعقيدة وليس رافدها الوحيد محاولًا اختزال الدين في العبادات فيما يأتي بتصوراته المتبقية من روافدَ أخرى مختلطةٍ فهذا نسميه غير ملتزمٍ وتسميه القُوى الكبرى المسلم العلماني أو المسلم الجيد.
فعلمنة اللغة التي نعيشها تعمل على اختزال مفهوم الدين في العبادات ليسهل عليها فصله عن تشريعاته التي تنظم أمور الدنيا وإنشاء أجيالٍ تتقبل مبدأ العلمانية وتعمل على تقريره والتوسع في اعتماده.
الخلاصة
من المهم أن نفهم العلاقة بين اللغة والثقافة، خاصةً بين اللغة العربية والإسلام وأن علمنة اللغة العربية وفصلها عن رافدها الديني فصلٌ للأمة عن دينها وعلمنةٌ لثقافتها.
وهو أمر يفرض الدفاع عن اللغة العربية وتحديثها مع الحفاظ على علاقتها بالإسلام وتطويرها حتى تواكب قريناتها ممن لا تمتلك من دقتها وقوتها القدر الكبير. ولبلوغ ذلك من المهم أن نضبط معرفتنا بلغتنا ونشدد على استخدام المصطلحات ذات الحمولة الدينية.
_________________
(*) المصدر: موقع “تبيان”.