مرت اثنتا وثلاثون سنة على إنشاء الاتحاد المغاربي بمدينة مراكش المغربية بحضور قادة الدول الخمسة آنذاك، والممثلة في كل من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا وليبيا، وكان من وراء ذلك حسب ما أعلن عنه حينها هو تحقيق الوفاق بين الدول الأعضاء وإقامة تعاون دبلوماسي وثيق، وصيانة استقلال كل دولة من الدول الأعضاء، وتحقيق التنمية الصناعية والزراعية والتجارية والاجتماعية للدول.
خلال العقود الثلاثة جرت تحت الجسر مياه كثيرة تجددت فيها الأحلام والطموحات، دون أن يؤدي ذلك إلى ما كانت تطمع إليه شعوب المنطقة، من تكامل اقتصادي وتصالح سياسي يؤدي في نهاية المطاف إلى تقوية تكتل إقليمي قادر على مواجهة التحديات الكبرى، واختارت كل دولة أن تبني مستقبلها بنفسها وترسم لنفسها مسارا يناسبها.
في هذه الذكرى، وجه الرئيس التونسي رسالة تهنئة إلى قادة دول اتحاد المغرب العربي يعتبر فيها أن هذا المشروع لا يزال الخيار الاستراتيجي للبلدان المغاربية، بسبب العديد من التحديات المتزايدة والمتنوّعة، ما يتطلب مواصلة الجهود من أجل مزيد الدفع بالعمل المشترك والارتقاء به إلى مراتب أفضل وتعزيز الاندماج والتكامل.
حمل خطاب الرئاسة التونسية الكثير من التفاؤل في عقد قمة مغاربية كان آخر موعدا لها في تونس أيضا سنة 1994. لكن وإن أصبح تاريخ 17 من شهر فبراير مجرد ذكرى لدى العديد من المحللين، فإن آخرين يرونه قد بات مناسبة سنوية ملحة للتذكير بمصلحة الشعوب المشتركة.
آمال متجددة
يعتبر المتخصصون في تحليل السياسة والاقتصاد والأمن أن وحدة المصير واللغة والثقافة والدين تعمل لصالح الاتحاد المغاربي ويشددون على أهمية العوامل الجيو- إستراتيجية والتاريخية في المسيرة المغاربية، بالرغم من أن العوائق كانت أكبر، وأثرت على التحام جناحي الفضاء المغاربي.
ويرى الخبير الأمني محمد أكضيض في تصريح لمجلة المجتمع أن المصلحة المشتركة تقتضي أن تتكاثف الجهود في ظل متغيرات دولية متسارعة، وفي وجود مقدرات يمكن أن تشكل محل تكامل مثل البترول والغاز والطاقات المتجددة، والأمن الغذائي والموارد البشرية المؤهلة.
ويبرز في حديثه للمجلة أن ملفات شائكة مثل الهجرة غير الشرعية والإرهاب يجب أن تنال الأهمية القصوى في علاقات التعاون لما فيه مصلحة شعوب المنطقة، و تصفية أي خلاف والعمل كقوة صاعدة أمام التكتلات الإقليمية والدولية، خاصة في ظل وجود بنية للتكامل في المنطقة.
ويؤكد أكضيض أن المغرب سعى دائما إلى فتح باب الحوار مع الجارة الشرقية الجزائر، ويرى بعين الرضا وبدون حساسية، إلى كل تطور إيجابي في البلدان المغاربية، بل إنه مازال يؤمن بأهمية وحدة المغرب العربي وتقوية أعضائه، وهو ما جعله يجمع الفرقاء الليبيين وينجح في مهمته برعاية أممية.
بدوره يرى إدريس لكريني، مدير مختبر الدراسات الدولية حول إدارة الأزمات ورئيس منظمة العمل المغاربي، أن ثمة الكثير من المقومات والإمكانات المذهلة التي توفر الأساس لنجاح تكتل المغرب العربي في كسب رهانات داخلية وإقليمية ودولية، وعلاوة على الموقع الاستراتيجي وتنوع الخيرات، وتوافر الإمكانات البشرية والطبيعية، هناك تراكم تاريخي ومشترك ثقافي يدعم هذا الأمر.
ويبرز في تصريح إعلامي أنه بالرغم من هذه الإمكانيات الضخمة، والتي تقابلها تحديات ومخاطر اقتصادية وأمنية واجتماعية. مشتركة تواجه المنطقة برمتها في الوقت الراهن، فإن حصيلة الاتحاد جاءت على امتداد ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن، هزيلة وضعيفة تعكسها و تترجمها حالة الجمود التي رافقت هذا الإطار ومختلف الاتفاقية التي راكمتها منذ إحداثه.
اقتصاد مؤخر
تؤكد تقارير دولية أن البلدان في منطقة المغرب العربي حققت فرادى تقدما كبيرا في الاقتصاد وخاصة في التجارة، لكنها المنطقة لا تزال الأقل اندماجا على مستوى العالم، حيث تبلغ تجارتها البينية أقل من 5 %من التجارة الكلية في بلدان المغرب العربي، وهو أقل بكثير من المستوى المسجل في كل التكتلات التجارية الأخرى حول العالم.
وتعتبر زيادة الاندماج بين بلدان المغرب العربي أمرا منطقيا لدواع اقتصادية، فمن شأن هذا الاندماج أن يخلق سوقا إقليمية تشمل قرابة 100 مليون نسمة يبلغ متوسط دخلهم حوالي 4 ألاف دولار أمريكي للفرد بالقيمة الأسمية وحوالي 12 ألف دولار على أساس تعادل القوة الشرائية.
ومن شأن هذا أيضا ، حسب التقارير الدولية التي اطلعت عليها مجلة المجتمع، أن يزيد جاذبية المنطقة كوجهة للاستثمار الأجنبي المباشر؛ ويخفض تكاليف حركة التجارة ورأس المال والعمالة عبر بلدانها؛ ويعزز كفاءة تخصيص الموارد. كما يمكن أن يُكسِب المغرب العربي مزيدا من الصلابة في مواجهة الصدمات الخارجية وتقلب السوق، وأن يساهم اندماج المغرب العربي بدور مهم يف إستراتيجية تشجع زيادة النمو في المنطقة.
وتضيف التقارير أن هناك تقديرات مختلفة تشير إلى أن الاندماج الإقليمي يمكن أن يساهم في زيادة النمو في كل بلد مغاربي بنحو نقطة مئوية على المدى الطويل، كما أشار ذلك في أكثر من مناسبة سعد الدين العثماني رئيس الحكومة المغربية.
وبينما تظل السياسات المحلية القوية هي القاطرة الاقتصادية الأساسية، فإن التجارة الإقليمية البينية يمكن أن تتضاعف نتيجة للاندماج ومن ثم تدعم النمو، مما يرفع مستويات التوظيف، وقد تؤدي زيادة الاندماج إلى وجود أطراف فائزة وأخرى خاسرة داخل كل بلد، مما يوجب على السياسة العامة أن تعالج الاختلالات المحتملة.
معوق الصحراء..
تعتبر قضية الصحراء التي تتداول على مستوى الأمم المتحدة العقبة الأساس التي تقف وراء اندماج مغاربي حقيقي، بسبب الخلاف الدائر بين قطبي الرحى في الاتحاد، المغرب متشبث بقرار الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، والجزائر مصر على وجود إطلالة له على المحيط الأطلسي عبر “استقلال” هذه الأقاليم.
ويرى المحلل السياسي المغربي أحمد نور الدين في تصريح لمجلة المجتمع أن العلاقة المتوترة بين المغرب والجزائر خلقت وضعا معقدا حد من أي تقدم إيجابي في بناء الاتحاد المغربي، معتبرا أنه في الوقت الذي يدعو المغرب إلى فتح الحدود التي أغلقتها الجزائر سنة 1994، والى حوار جاد وتكوين لجنة خاصة لطرح جميع المواضيع دون طابوهات على طاولة الحوار كما جاء في الخطابات الملكية، نجد الجزائر ترفض ذلك وتهاجم المغرب بلسان قياداته الرئاسية والعسكرية والبرلمانية، في حملات منسقة انخرط فيها الإعلام الرسمي بشكل يومي، بل واعتباره عدوا كلاسيكيا على لسان القائد العسكري بنشقريحة، ثم القيام بمناورات عسكرية بالذخيرة الحية على التماس من الحدود بأسماء استفزازية مثل الطوفان والاجتياح.
ويؤكد نور الدين الباحث في القضايا الدولية أن الجزائر خرقت المادة 15 من القانون الأساسي للاتحاد المغاربي، والتي تنص صراحة على منع احتضان أي حركة مسلحة أو تيارا سياسيا لآي حركة تشكل تهديدا لأمن وسلامة البلاد الأخرى أو تقويض نظامها السياسي وحدتها الترابية، وكأن المادة كتبت خصيصا لقضية الصحراء المغربية، وفصلت على ما تقوم به الجارة من دعم لجبهة البوليساريو الانفصالية.
ويؤكد المتحدث ذاته، أن حدة الهجوم على المغرب ازدادت مع تزايد الحراك الجزائري، لتصدير أزمتها الداخلية نحو عدو خارجي متوهم، وهذا التصريحات التي تهاجم المغرب شملت كل القيادات الجزائرية.
في الاتجاه ذاته يرى مدير “مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الإستراتيجية المغربي عبد الفتاح الفاتحي في تصريح لمجلة المجتمع أن القيادات الجزائرية لا تزال غير قادرة على مشاركة التدبير لعدد من القضايا الشعبية المشتركة في إطار تكتل إقليمي كما هو الحال الاتحاد المغاربي. وهي بذلك ترجح أولوياتها على أساس تعزيز القطرية وافتراض أن المؤشرات الموضوعية على أساس استقلال القرار السياسي للدول المغاربية غير قمينة ليسمح بالدخول في تكتل يسمح بتدبير مشترك لتحديات ورهانات الدول المغاربية.
انشغالات محلية
تبقى الانشغالات المحلية أيضا، أحد المعيقات الكبرى التي وقفت في بناء اتحاد مغاربي قوي، خاصة أن الضربات في بعض البلدان كانت موجعة والبناء الديمقراطي مازال مستمرا ، يتقدم تارة ويتعثر تارة أخرى، علاوة على متغيرات لم تكن في الحسبان مثل الربيع العربي سنة 2011، وما تلاه من ارتدادات، أيضا وأزمة وباء كورونا طيلة سنة 2020 والتي مازالت تداعياتها إلى الآن، حتى في البلدان التي قطعت أشواطا في بناء اتحادات إقليمية قوية مثل الاتحاد الأوروبي.
وتشير الكاتبة التونسية أسماء العتروس إلى أهمية التحالفات والتكتلات الاقتصادية والعسكرية والأمنية والسياسية الإقليمية والدولية التي تجمع دول العالم حسب انتماءاتهم الجغرافية أو الحضارية أو التاريخية أو غيرها بحثا عن تحقيق التكامل والتضامن المطلوب سواء في زمن المآسي والجوائح أو الحروب أو في زمن السلم والاستقرار.
وتضيف أن في مخاطر جائحة كورونا بعد أكثر من عام على انتشارها في العالم ما يعزز أهمية التضامن الإنساني الدولي في مختلف المجالات لاسيما العلمي والطبي لضمان توفر اللقاح لمختلف شعوب العالم دون استثناء لمواجهة تداعيات الجائحة والحد من انعكاساتها على الجميع.
وتؤكد أنه ليس من المبالغة في شيء الإقرار بأن شعوب المنطقة تدفع اليوم ثمن الجائحة مضاعفا في ظل غياب الاتحاد المغاربي الذي يبرز بالغياب على الخارطة المغاربية والعربية والإفريقية والدولية في أكثر من ملف حارق.
ويبرز المحلل السياسي الفاتحي في التصريح ذاته أن الانشغالات المحلية في الدول المغاربية بدعم الاستقرار الداخلي بعد ظهور مواسم الربيع العربية، أضيفت إلى جملة العوائق في بناء اتحاد مغاربي قوي، وهو الأمر الذي عزز من البعد القطري لهذه الدول، وما سيزيد من توسيع فجوة أفق الوحدوي في توحيد سياسات داخلية مشتركة تسمح مستقبلا بارتفاع أصوات تطالب باستغلال الرصيد المشترك لإمكانيات البلدان المغاربية.
ويؤكد الفاتحي إنه بالتقدير إلى المشكلات السياسية الداخلية فضلا عن الأزمة الليبية وتدخلات الأجنبية يبقى مشروع الاتحاد المغاربي رهان بعيد المنال، لا سيما أن دولة فاعلة كالمغرب وحيث لم تجد ردا جزائريا لتطبيع العلاقات البينية صارت تبني سياساتها الخارجية على أساس فضاءات أكبر من الناحية الإستراتيجية وهو ما سيزيد من تعزيز تباعد وجهة النظر الجزائرية التي لا تزال تعاني من تضخم الأنا، حسب تعبيره.