إن ضريبة التقدم لم تكن يوماً منخفضة ورخيصة، ولكن ضريبة التخلف عن مواكبته والارتقاء إلى مستوى المسؤولية التي تترتب عليها كانت على الدوام أشد وطأة وأغلى كلفة بكثير، لقد حصل ذلك في كل محطة من محطات التطور العلمي.
مرت ذكرى أكثر من أربعين عاماً لانطلاقة اختراع الإنترنت من دون اهتمام يتناسب وذلك الحدث، والمفارقة أن سبب ذلك النسيان، والكلام هنا للأستاذ بدر سيد الرفاعي، رئيس تحرير مجلة “الثقافة العالمية”، يكاد يكون الإنترنت نفسه، أي: شدة انهماك مئات ملايين المستخدمين فيه إلى درجة الغفلة عن ذكرى تأسيسه، وهو الذي بات منذ سنوات غير طويلة أهم ميزة للعالم واقتصاداته وعاداته وثقافاته التي تأثرت بها بدرجة هائلة يستحيل تحديدها أو رسم ملامحها بدقة، سواء تعلق الأمر بالآثار التي وقعت حتى تاريخه أو التي ستقع في المستقبل.
ويضيف الرفاعي: ولا ندري إذا كان من حسن أو سوء طالع البشرية أن تصبح التكنولوجيا هي المتحكمة في وقت الناس ونمط حياتهم وإنتاجهم، وهي التي باتت تسبق الإنسان الذي ابتكرها، فأصبح عليه هو اللحاق بها -وأحياناً الخوف منها- حتى يكاد ينسى كيف وإلى أين ولمصلحة وخير من؟
ومن المفارقات أن اختراع الإنترنت، الذي كان في أولى خطواته عبارة عن ابتكار (برنامج) لنقل وتحويل الملفات بين أجهزة الكمبيوتر، قد بدأ في دهاليز ومراكز أبحاث وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، وأن هذه الأجهزة والمراكز أصبحت وما زالت هدفاً مغرياً لهجمات قراصنة الإنترنت ووحدات الإرهاب الإلكتروني.
فمن اخترع الإنترنت لم يكن يتصور يوماً أن يكون أكبر وسيلة اتصال للإرهاب الذي غيَّر الولايات المتحدة، وغير معها العالم.
والمزعج في التطور التقني أنه يحمل معه في كل مرة سلاحاً جديداً لصرفه عن أهداف التقدم والخير، وربما الذهاب به بعيداً لخدمة الشر وحتى الإجرام، وهو ما يصح أكثر مما يصح اليوم على الإجرام الإلكتروني وأشكاله التي تبدأ من “هاكرز” أو قراصنة الكمبيوتر إلى عمليات النصب (الذكي) للحسابات المالية للمصارف إلى عمليات الابتزاز والاحتيال التقليدي التي تستخدم الإنترنت للسطو على بعض أموال بعض المستخدمين، وصولاً إلى الأجهزة الحاسوبية التي يحكى أنها تحمل منذ لحظة بيعها ووصولها إلى المشترين مفتاحاً خاصاً للتحكم فيها بعد بدء استخدامها لغايات معينة.
لقد أصبحت المعلوماتية الإلكترونية في عالم اليوم من أخطر الأسلحة إن لم تكن أخطرها على الإطلاق، فالأمر لم يعد يقتصر على الإجرام الإلكتروني، بل إنه يمتد إلى التأثير في العلاقات بين الدول، ولا سيما تلك التي تعيش نوعاً مما يمكن أن يُسمَّى “السلام البارد”، وهو بالتأكيد بدأ استخدامه منذ سنوات في الحروب وسوف يكون في المستقبل العامل الأكثر حسماً.
وما لا يقل تعقيداً وأهمية عن دور المعلوماتية الإلكترونية في الحروب هو دراسة جوانب وآثار استخدامها وتقنين استعمالها وعدم استعمالها في السلم، بهدف تطوير الجوانب القانونية والاقتصادية والمصرفية.
إذ يظهر أن العالم قاطبة، وعلى الرغم من التفاوت بين الدول، يعاني ثغرات وفجوات هائلة على الصعيدين التنظيمي والتشريعي، بل هو يبدو أقرب إلى التجريب، لكنها تجربة معقدة وغنية، ومطلوب من الجميع المشاركة فيها وتحديد مسؤولية كل طرف قبل أن يضع “الكبار” وحدهم ما يصح تسميته “نظام إنترنت عالمي” في غفلة عن الفقراء والضعفاء و”المتخلفين” علمياً وتشريعياً، خصوصاً أن هناك كثيرين يحاولون الآن الإيحاء بأن تهديدات الإرهاب الإلكترونية، على سبيل المثال، هي بشكل ما أزمة حضارات أو حرب تستهدف الغرب.
___________________________________
(*) مستشار اقتصادي وأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
للتواصل: zrommany3@gmail.com.