بعيداً عن الجدل القائم حول جنس وهوية حركة “طالبان”، وما إذا كانت حركةً إرهابية أم جهادية، أو حركة ظلامية أم ثوريةٌ، أو أنها حركة منغلقة أم منفتحة، أو أنها جماعاتٌ مقاتلةٌ، وما إذا كانت ستعود إلى ماضيها وعهدها القديم، وسترجع إلى سيرتها الأولى وشكلها الأول، الذي كان عنيفاً متطرفاً، وقاعدياً منحرفاً، ومتشدداً معزولاً، ومرفوضاً مكروهاً.
أو أنها ستغدو حركة سياسية ثورية بثوبٍ جديدٍ وفكرٍ مختلفٍ، تتجاوز فيه عقد الماضي وشبهات التاريخ، وتقبل بالحداثة والعصرية، وتؤمن بالديمقراطية والتعددية، وتعترف بحقوق الإنسان عامةً والمرأة خاصةً، وتدرك أنها لا تعيش في جزيرةٍ نائيةٍ ولا في عالمٍ مستقل، ولا وحيدةً في كوكبٍ لا يعيش فيه غيرها، وإنما هي جزءٌ من العالم تتأثر به ويؤثر فيها، فتكون مرنةً وتتخلى عن جمودها، وتلتزم القانون الدولي وتعترف به، وتحفظ أمن شعبها وتراعي أمن وسلام جيرانها.
علينا أن نتخلى عن هذا الجدل البيزنطي العقيم، الذي أنسانا الجوانب الإيجابية في التجربة الأفغانية الجديدة، وحرف أنظارنا عن الدروس والعبر التي يمكن أن نستقيها من تجربتهم، وأن نستفيد منها ومن مسيرتهم، علماً أن الدروس المستفادة سلبية وإيجابية، فكما أن فيها الكثير من الجوانب الحسنة التي نأمل أن نستفيد منها ونتعلم، فإن فيها جوانب سلبية ومظاهر سيئة نتمنى أن نتجنبها ونبتعد عنها، وهي الصورة الظاهرية لهم، والفكرة القديمة المأخوذة عنهم، التي يتناقلها الكتاب بسطحية ويتحدث فيها العامة بجهالةٍ.
لكن ينبغي ألا تكون نظرتنا إليهم نظرةً أحاديةً سوداويةً، لا ترى إلا السيئ، ولا تقيم إلا السلبي، ولا تحكم عليها إلا بماضيها، ولا تعترف بالجديد لديها أو بالتطور فيها، فحركة “طالبان” ليست هي الجهاد الأفغاني القديم وإن كانت امتداداً له وفرعاً عن أصله، ولكنها غدت على مدى العشرين عاماً الأخيرة التي أقصيت فيها عن الحكم وأزيحت عن السلطة، حركةً ثوريةً، تسعى للتحرر من الاستعمار الأمريكي والتخلص منه، وتريد الاستقلال ببلادها وتحرير سلطاتها الوطنية من التبعية للغرب عموماً وللولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص.
ولعلها تعلمت الكثير واستفادت من تجربة الإقصاء ومحنة المواجهة، كما لا أستبعد أبداً أن تكون قد طُوِّعت ورُوِّضَت، وهُجِّنت وبُدِّلت، سواء خلال سني الاعتقال الطويلة لبعض قادتها في معتقل غوانتانامو، أو من خلال جولات المفاوضات الطويلة التي خاضتها في الدوحة مع الجانب الأمريكي بوساطةٍ قطريةٍ، كما لا أستثني الرعاية القطرية لقيادتها واستضافتها الكريمة لهم، وسخاءها معهم وتسهيلها لوجودهم وحركتهم في قطر، فضلاً عن رعاية مؤتمراتها وحواراتها الداخلية ولقاءات هيئة الوساطة معهم، التي ترأسها مرشح الرئاسة السابق عبدالله عبدالله، مما يكون قد أثر على سياستها فغيرها.
ربما نحن الفلسطينيين تحديداً، وقوى المقاومة العربية عموماً، في حاجةٍ ماسةٍ لدراسة هذه التجربة الحديثة، فهي لا تقل عن التجارب القديمة التي استفدنا منها، الفيتنامية والجزائرية وتجارب دول أمريكا اللاتينية وغيرها، كونها التجربة الأحدث والأكثر غنىً، التي تمثل قمة النهم الاستعماري الغربي الحديث المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تتردد في استخدام أكثر أسلحتها فتكاً وتطوراً، بما فيها قنبلة جهنم التي استخدمتها في أفغانستان أكثر من مرة، ورغم ذلك فقد انسحبت من أفغانستان، وأنهت وجودها فيه، بغض النظر عن الشكل الذي تم فيه، أو حقيقة الاتفاقيات السرية التي أفضت إلى هذه النتيجة.
ولعل الاهتمام “الإسرائيلي” الكبير بالتطورات الأخيرة في أفغانستان، الذي بدا عبر تصريحات كبار مسؤوليه السياسيين والعسكريين، وطغا على إعلامهم المحلي ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلاً عن عديد الندوات والمحاضرات التي نظمتها مراكز الدراسات والبحوث الاستراتيجية “الإسرائيلية”، يدفعنا للتساؤل عن أسباب اهتمامهم ودوافع خوفهم وقلقهم، رغم أن أفغانستان بعيدة عنهم، ولا تؤثر في الصراع عليهم، وقد تفيدهم سمعة طالبان السيئة وتاريخها المشوه في تحسين صورتهم، وضمان تفهم المجتمع الدولي لسياساتهم.
إلا أن هناك جوانب أخرى تقلقهم وتخيفهم، لجهة إعادة التموضع الأمريكي في المنطقة، والسياسات الجديدة التي تنتهجها الإدارة الأمريكية، التي لا يبدو عليها التمسك بالحلفاء والحرص على الأصدقاء، بل يطغى عليها حماية مصالحها، والدفاع عن مكتسباتها، وضمان أمن وسلامة جنودها، وعدم توريطهم في حروبٍ بعيدةٍ عن بلادهم، يدافعون فيها عن غيرهم، ويضحون فيها نيابة عن أصحابها الأصليين.
لهذا ينبغي التوقف ملياً عند التجربة الأفغانية “طالبان” الجديدة، ودراستها بتأنٍ وتمعنٍ شديدين، ومراقبة التطورات والمستجدات اللاحقة، علماً أن الصورة النهاية لأفغانستان، ولما ستبدو عليها مستقبلاً، لن تظهر بسهولة خلال الأشهر القليلة القادمة، إذ يتطلب وضوح الصورة واستقرار الأوضاع فترة زمنية غير قصيرة، فيها تكشف طالبان عن سياستها الجديدة، وتميط اللثام عن مفاهيمها الخاصة في التعامل مع المواطن الأفغاني، رجلاً وطفلاً وامرأة، فضلاً عن المقيمين والأجانب، والإعلاميين والسفارات والبعثات الدولية، التي من خلالها تظهر السياسة الدولية تجاه أفغانستان، سواء لجهة الاعتراف والتعاون، أو رفضها وإنكارها، وحصارها والتضييق عليها، وذلك تبعاً لسياستها التي ستكون محل مراقبة ومتابعة شديدة.