على كل جهة سياسية متعاونة مع الولايات المتحدة في منطقتنا أن تدرس ما جرى في أفغانستان.
ما جرى في أفغانستان نموذج عن سياسات الولايات المتحدة وإدارتها لتحالفاتها وسلوكها تجاه حلفائها، ومثال على كيفية تحديد واشنطن أولوياتها وتعاملها مع الأطراف القوية.
عام 2001م وبعد تفجير برجي التجارة العالمي في نيويورك، وضعت واشنطن خطة لاحتلال أفغانستان، وادعت أنها تهاجم مجتمعاً لا يعرف الحضارة، وعملت الأدوات السياسية والإعلامية الأمريكية وحلفائها على تشويه صورة المجتمع الأفغاني وتالياً حركة “طالبان” وتالياً الدين الإسلامي.
احتلت الولايات المتحدة أفغانستان وادعت أنها ستبني مجتمعاً حضارياً ديمقراطياً هناك.
بدأت واشنطن فيما قالت: إنه بناء المجتمع الأفغاني؛ بناء إدارات الدولة، تدريب الجيش والقوى الأمنية، إجراء انتخابات، دفع أموال للتنمية.. إلخ.
عملت الأدوات السياسية والإعلامية الغربية على تصوير أفغانستان واحة للمدنية والليبرالية.. وأنفقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة خلال 20 عاماً ألفي مليار دولار (تريليونين).
خطوة واشنطن لاقت ترحيباً عالمياً، وأشادت بها مؤسسات دولية، وبعد 20 عاماً تفاجئ الإدارة الأمريكية العالم بقرار الانسحاب من أفغانستان.
فجأة تم إخراج أفغانستان من الإستراتيجية الأمريكية وأبعدت أفغانستان عن مشروع تأهيل المجتمعات وتخلت واشنطن عن أهدافها المعلنة تجاه كابل.
واشنطن حاورت “طالبان” على آلية الانسحاب من أفغانستان، وحاولت طمأنة حلفائها تجاه المستقبل الأفغاني، وأشادت كثيراً بقدرات الدولة الأفغانية والجيش في التعامل مع التطورات.
لكن خلال أسابيع قليلة انهار كل ما أقامته واشنطن في أفغانستان: سقطت الولايات الأفغانية، انهارت خطوط الدفاع، غابت سلطة الدولة، عجزت الحكومة عن التعامل مع اندفاعة “طالبان”، فشل الجيش الذي دربته واشنطن وجهزته وتعداده 300 ألف جندي، وأخفقت الأجهزة الأمنية.
دخلت واشنطن في مأزق، فهي لم تقدر على حماية ما أسسته في أفغانستان، لا بل لم تقدر على حماية مؤسساتها ومراكزها ولم تستطع سحب عملائها خلال وقت كاف، وأتلفت محتويات سرية في سفارتها بكابل.
سقط المشروع الأمريكي بالكامل في أفغانستان، هذا هو درس للتاريخ لكل من يتحالف مع واشنطن.
لقد رفعت واشنطن حلفاءها في أفغانستان إلى أعلى مستوى، وأشادت بهم وأنفقت عليهم.. لكنها فجأة تخلت عنهم وتركتهم لمصيرهم.
أهم ما في القضية من عبر أن المجتمع الأفغاني انفتح على حركة “طالبان”، ووافق على رؤيتها في التخلص من المحتل، ورحب بقدومها وسهل سيطرتها على الولايات وسلمها السلطة.. لذلك تقدمت “طالبان” بسرعة فائقة.. سقطت كل الإغراءات الأمريكية أمام منطق المجتمع ومصالحه..
لقد هزم المشروع الأمريكي الغربي في كابل وتحطمت غطرسة الجيوش الأوروبية وهزم حلف “الناتو” واندحرت النظرية الغربية التي تسيء للإسلام والحجاب، وتشوهت صورة الولايات المتحدة في العالم، وانتصر مفهوم حرية الشعوب ومبدأ تقرير المصير والاستقلال والسيادة الوطنية.. وانتصر مفهوم المقاومة.. كما أخذت القوى الإسلامية في المنطقة مكاسب كبيرة واضحة.
هناك دروس كثيرة ممكن أن نستفيد منها فلسطينياً من الحدث الأفغاني، أهمها:
1- ليس كل ما يصدر عن واشنطن هو سليم أو صحيح أو ثابت.. فواشنطن تغير خططها وتبدل إستراتيجيتها حسب مصالحها.. انسحبت من الاتفاق النووي مع إيران وطالبت بوقف الحرب في اليمن وتتحدث عن الانسحاب من سورية والعراق.
2- أن التحالف مع واشنطن هو تحالف معرض للتراجع أو الإلغاء حسب مصلحة واشنطن ليس إلا.
3- أن واشنطن لا تلتزم باتفاقيات أو مواثيق فهي تناور حسب حاجتها.
4- أن مصير أي قوة سياسية محلية في بلادنا مرتبط بقدرتها على استيعاب مجتمعها وتمثيله والتعبير عنه وعن أهدافه دون تدخل خارجي.
5- أن واشنطن لا تكترث لمصير حلفائها ولا لمستقبلهم.. لقد تخلت واشنطن تاريخياً عن الكثير من حلفائها.
لعل هذه الدروس وغيرها تكون محل مراجعة في ساحتنا الفلسطينية.
المطلوب اليوم في ساحتنا الفلسطينية بعد التجربة الأمريكية الأفغانية تعزيز مفهوم الوحدة الوطنية وتبني خيارات الشعب ومصالحه، توحيد الرؤية تجاه الاحتلال “الإسرائيلي”، والثقة أكثر بمشروع المقاومة، وتقليل رهان البعض على الخيار الأمريكي، والاتعاظ من هزيمة جيش كابل، وانهيار المؤسسات والأجهزة التي أسستها واشنطن، والتمعن في صورة هروب المتعاملين مع واشنطن..
صحيح أن نظرة الولايات المتحدة للصراع في المنطقة والعلاقة مع الكيان الصهيوني تختلف عن أي قضية أخرى في العالم.. لكن صحيح أيضاً أن قيم الحرية والمقاومة والوحدة الوطنية والاستقلال تنتصر دائماً.
_______________________
(*) كاتب فلسطيني.