إلى وقت قريب جداً، كان “الاتحاد العام التونسي للشغل”، أكبر منظمة نقابية في تونس، يحافظ على شعرة معاوية مع الرئيس قيس سعيّد، بل إن الكثير من المحللين اعتبروا الاتحاد أحد معاول سعيّد وشريكاً له في الانقلاب، ولا سيما بعد ترحيبه بما سماه سعيّد الإجراءات الاستثنائية، في 25 يوليو الماضي.
بل وصدرت عن قيادات الاتحاد ما يفيد بدعم تلك الإجراءات، والرفض المعلن للعودة لما قبل 25 يوليو، وزاد تصريح الأمين العام المساعد سامي الطاهري من ترسيخ ذلك الاعتقاد عندما سئل عن اختلاف موقف الاتحاد من سعيّد مقارنة بموقفه من حكم “الترويكة” بقيادة حزب حركة النهضة (2012 – 2013)، رد بصريح العبارة وبالفرنسية: “لسنا في نفس الملعب”.
أي أن هناك ازدواجية معايير حسب الطرف السياسي الذي يتولى السلطة، فهناك خلفيات سياسية وأيديولوجية وارتباطات ما بالداخل والخارج تملي مواقف الاتحاد، أو هكذا فهم كثيرون.
الموقف الجديد للاتحاد
تغير موقف الاتحاد 180 درجة من الدعم والمساندة، والتقرب إلى إعلان الويل والثبور وعظائم الأمور، والتصريح بأن الاتحاد لن يذهب مع سعيّد في مشروع “اللجان الشعبية” التي كانت سائدة في ليبيا، ويريد سعيّد فرضها في تونس.
وطالب الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، خلال إشرافه على المؤتمر العادي للاتحاد بمحافظة بن عروس، الرئيس سعيّداً بمصارحة شعبه بحقيقة الأوضاع، وتوضيح برنامجه المستقبلي، والكشف عن خياراته وتوجهاته بعد 25 يوليو، وأكد الطبوبي أن الاتحاد يرفض العمل ضمن مفهوم “اللجان الشعبية”، وأنه موحد بقياداته وقناعاته، رغم استهداف صورته وضرب سمعته.
وشدّد الطبوبي، في كلمة خلال أعمال المؤتمر العادي للاتحاد الجهوي للشغل في بن عروس، أمس السبت، على أنّ الاتحاد مستقل في قراراته ومواقفه، ولا أحد يمكنه استخدام المنظمة الشغيلة كصورة، وفق قوله.
وأشار الطبوبي إلى أنّه ليس في معركة مع رئيس الجمهورية، لكنّه يختلف معه في التوجهات.
وخاطب الطبوبي سعيّداً قائلاً: “أعطنا مضامينك واختياراتك ونحن نقرر.. نكن معك أو ضدّك”.
وأكد أنه لا أحد يمكنه أن يقرر مستقبل تونس دون انخراط الاتحاد العام التونسي للشغل، في ذلك، داعياً الرئيس إلى تجميع الفرقاء السياسيين والقوى المدنية لإيجاد مُخرجات تونسية تونسية حقيقية.
الزمن لا يتوقف في 25 يوليو
وشدد الطبوبي، في تصريح له، لـ”القناة التلفزيونية الرسمية”، على أن الوضع السياسي في تونس يجب ألا يتوقف في 25 يوليو، فالدولة ليست لعبة، وعامل الزمن مهم جد.
وأضاف أن الدولة لها أسرارها والحوارات لها ضوابطها، ومن الضروري البحث في كيفية إخراج البلاد من الوضعية الراهنة في أقرب الآجال، لأنه في حال فقد الشعب الثقة في كل الأطراف والمكونات ستصبح الدولة في خطر.
وكان الطبوبي قد ذكر، في وقت سابق، وتحديداً في كلمة ألقاها، يوم 14 أكتوبر، وأثناء افتتاح ندوة الجامعة العامة للنقل، أن الديمقراطية والشرعية ليست صكاً على بياض.
وذكّر الطبوبي أن الاتحاد كان قد أصدر بياناً حول ما وقع في 25 يوليو قائلاً: إنه لا بد من الحسم في تداعيات هذا التاريخ بعقلانية في إطار ضوابط قانونية ودستورية؛ لأننا لسنا في عزلة، بل نتعامل مع دول عديدة، ويجب على القائد الذي يقود البلاد أن يوحد شعبه حول خيارات وطنية.
وتعليقا على استقاء الرئيس سعيّد معلوماته من “فيسبوك”، رغم أن لديه أجهزة تعرف ما وراء الجدران، قال الطبوبي: أصبحنا اليوم نعيش في دولة يسيّرها “فيسبوك”.
أسباب تغيّر موقف الاتحاد
هناك العديد من الأسباب التي دفعت الاتحاد العام التونسي للشغل لتغيير موقفه من الدعم، إلى التراجع، إلى النقد، إلى الإعراب عن بوادر مواجهة مع الرئيس سعيّد؛ أولها خيبة الظن، في أن يكون طرفاً في السلطة، كما هي الحال بعد الثورة، ففي كل الحكومات كان الاتحاد حاضراً في تسمية بعض الوزراء ولا سيما وزارة الشؤون الاجتماعية التي ظلت حكراً عليه حتى جاءت حكومة نجلاء بودن وافتكت منه.
السبب الثاني هو الضغط الدولي، فرغم رفض الاتحاد للتدخلات الأجنبية، وعدم لقائه بوفد الكونغرس الأمريكي، فإنه يلتقي بالسفير الفرنسي باستمرار، ودون تحفظ، كما التقى وزير الخارجية الألماني عندما زار تونس في اليومين الماضيين، وذلك أن مؤسسة روزا لكسمبورغ وهي الراعي الرسمي لليسار العربي، ومنه اليسار التونسي، الذي وصفه أحد رموزه في تونس، بأنه “محمية طبيعية” تقوم بتمويل اليسار، وبالتالي لا يمكن رفض مقابلة وزير خارجية ألمانيا!
السبب الثالث هو وجود مجتمع سياسي ومجتمع مدني (هو الآخر أو بعضه تدفعه نفس الأسباب) يرفض الانقلاب، وكان الطبوبي قد التقى، أخيراً، وفداً عن تنسيقية القوى الديمقراطية، وشدد الوفد على ضرورة العودة السريعة إلى النظام الديمقراطي في إطار تمشي تشاركي يُوفّر شروط الاستقرار السياسي لمواجهة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد.
السبب الرابع هو إدراك الاتحاد وغيره ممن أيد الانقلاب ثم غيّر موقفه، بأن التمشي الذي يسير فيه سعيّد خاطئ، ويدفع البلاد نحو الانهيار في ظل مناكفة قوى الداخل وحتى القوى الخارجية، واستخدام خطاب لا يملك أدوات تنزيله.