“مصادرة ممتلكات فردية، تجميد أصول دولة، منع تصرف في العقارات الفارهة واليخوت، أعمال عديدة تتوقف بسبب مواقف سياسية وليست اقتصادية” على الرغم من أن كل هذا يبدو بعيدا كل البعد عن مفاهيم الاقتصاد العالمي الحر و”العولمة” إلا أن روسيا تعرضت لذلك كله وزيادة خلال الأسابيع الماضية بعد غزو أوكرانيا.
وبغض النظر عن مدى نجاعة أو مشروعية تلك الخطوات الغربية، إلا أن العقوبات الاقتصادية الصارمة تلك طرحت تساؤلا عما إذا كانت العولمة والاقتصاد العالمي الحر والتجارة الحرة ما زالت قائمة بالفعل أم أنها ستصبح من الماضي قريبا.
انقسامات
يقول “إدوارد ألدين” الباحث في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي”: من الواضح أن العالم يتجه لكي يصبح أكثر انقسامًا من الناحية السياسية، ولا شك أن العلاقات الاقتصادية لن تستقيم كما كانت في ظل تلك الانقسامات”.
ويعتبر “ألدين” أن الاتجاهات المضادة للعولمة الاقتصادية بدأت تكتسب زخمًا أمريكياً وعالميًا مع الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب”: “أمريكا أولا”، قبل أن تتزايد قوة تلك الاتجاهات مع تفشي وباء كورونا، لتأتي الحرب الروسية على أوكرانيا والعقوبات التي تلتها على موسكو لتزيد الطين بلة.
وما يجعل الحديث حول “تراجع العولمة” أكثر جدية حقيقة أن الإجراءات الاقتصادية لم تتوقف على الحكومات الغربية بحسب، بل امتدت إلى ما يناهز 400 شركة عالمية (غربية) اختارت الانسحاب من روسيا، ومن بينها أسماء اقترنت بالعولمة تاريخيا مثل “ماكدونالدز”.
ولذلك اعترفت الممثلة التجارية الأمريكية “كاثرين تاي” بأن تطورات ما بعد كورونا والحرب الأوكرانية تفرض “البحث عن أسس جديدة” للتجارة العالمية في ظل صعوبة العودة إلى الأنظمة التي كانت قائمة عام 2019 بهذه السهولة و”كأن شيئا لم يكن”.
ويعتبر “داني رودريك” أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة “هارفارد” أن ما كشفته هذه الحرب للكثير من الدول أن الاعتمادية الاقتصادية قد تكون وسيلة للعقاب، لذا فقد تتجه روابط الدول الحليفة إلى المزيد من الترابط في مقابل تراجع الروابط مع الدول غير الصديقة، بما يحول التجارة إلى “جزر منعزلة” وليس عالماً متصلاً.
تراجع أمريكي
ولعل من الأمثلة على تراجع العولمة الاقتصادية بشدة قيام الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بدعم صريح لافتتاح شركة “إنتل” مصنعًا لإنتاج أشباه الموصلات في الولايات المتحدة بتكلفة تصل إلى 20 مليار دولار في يناير الماضي في تصريحات مباشرة نادرة في هذا الصدد.
“بايدن” اعتبر أن ما تقوم به الشركة بمثابة دعم هام للغاية لـ”الاستقلالية الاقتصادية” للولايات المتحدة في مجال إنتاج الإلكترونيات، بل ورأى في المصنع الذي يتم إنشاؤه في ولاية “أوهايو” وسيلة لـ”التخلص من القيود التي تفرضها سلاسل التوريد المعقدة”.
ويعد هذا تصريحًا من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بدحض إحدى أهم الأساسيات التي تقوم عليها العولمة الاقتصادية ومتمثلة الاستفادة من الميزات النسبية وتقسيم العمل والتخصص بما يحقق الوفورات.
فالعولمة الاقتصادية جعلت الدول الغربية بمثابة مُصدر للتكنولجيا العالية، والتي تستخدمها في إنتاج سلع في بعض الدول ذات الميزة النسبية في رخص العمالة (وأحيانًا عدم مراعاة العوامل البيئية) قبل أن يتم توزيع السلع في العالم أجمع بما فيه الدول الغربية نفسها.
وبسبب تقديم الدول الغربية لمنتجات ذات قيمة مضافة أعلى (فضلا عن تحكمها الفعلي في معادلة الإنتاج ككل) فإن الدول الصناعية السبع تقدم 50% من الناتج العالمي، بينما تقدم الصين وروسيا مجتمعتين 20% من الناتج العالمي.
الصين أخطر
ولا شك أن الولايات المتحدة ستكون من كبرى الدول المتضررة من اشتعال فتيل منطق مضاد للعولمة الاقتصادية في ظل قيام نسبة ليست قليلة من صادراتها على مبدأ “حق الامتياز” أو “فرانشيز” والذي قدم للاقتصاد الأمريكي ناتجا بحوالي 690 مليار دولار عام 2020، وهو ما دفع روسيا للتفكير في تأميم محال تلك السلاسل التجارية القائمة على حق الامتياز ووقف قبولها في روسيا.
ومن جانب آخر، فلعل خطوات الصين وروسيا للابتعاد عن الدولار تأتي من بين العلامات المهمة للغاية في مسألة تراجع العولمة الاقتصادية، والذي يعد الدولار عملتها الأولى، وأحدث تلك الخطوات في قرار الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” أمس الأربعاء ببيع الغاز لمن أسماهم بـ”الدول غير الصديقة” بالروبل وليس بالدولار.
وتشير “نيويورك تايمز” إلى أن الأزمة الحقيقية في أن المواجهة حاليًا مع طرف هام (في إشارة إلى روسيا التي تحتل المركز الحادي عشر بين كبرى الاقتصادات العالمية)، ولكنها ليست مع الصين التي تكاد تناطح الاقتصاد الأمريكي في القوة كما أنها أكبر مُصدر في العالم، والتي ستكون المواجهة معها إذا حدثت مستقبلا بمثابة نهاية ووفاة لنظام التجارة العالمي ككل.
ولذلك قال نائب وزير الخارجية الصيني إنه “لا يجب أن يتم استخدام العولمة كسلاح”، مشددا على أن بلاده كانت عنصرا فاعلا في النظام الاقتصادي العالمي منذ انضمامها لمنظمة التجارة العالمية، وأن التحول عن قواعد العولمة سيكون له “أضراره الكبيرة على الجميع”.
إذن فمن قيود السفر التي تم فرضها إبان انتشار فيروس “كورونا”، إلى الحروب التجارية الأمريكية الصينية، ثم قيود تصدير السلع والمنتجات الزراعية مع الحرب الأوكرانية، والإطاحة بروسيا خارج نظام “سويفت” إلى محاولات التراجع عن هيمنة الدولار يبدو أن العقوبات الاقتصادية على روسيا تعطي مؤشراً جديداً لتراجع واضح للعولمة الاقتصادية.