حينما كنت صغيرا – وما أزال هذا الطفل الذي خرج إلى الدنيا عاريا وضعيفا وأسود الوجه، وقل ما شئت فيه من البلايا- حلمت بأن الجنة بها جمال وخيول، وأنني قرد يقفز فوق سلالم خشبية ويركب أرجوحة تطير به إلى سور جهنم، لكنني -وهذا في الحلم- أعود مسرعا؛ فجسدي لا يقوى على النار!
ظل هذا الخاطر يدفعني بعيدا، مضت سنوات لست أذكرها، تتعارك الإبل مع الخيول، يتقافز القرد هازئا، ففي الخواطر متسع لقضاء الأحلام الجميلة، سيما ونحن نعيش عصور البهجة، تتراقص العصافير فرحة وقد انتشى المحبون برياض النسائم والمدن والشوارع والطرق والأزقة نظيفة بهية، في كل حارة كتاب وفي النيل عسل ولبن مصفى، نساء المحروسة حور عين الواحدة منهن تنظف جسدها بالعطور، رائحتها عنبر، حتى القطار الذي رأيته يوما مأوى للجرذان الآن يطير مع السحاب!
ألم أقل لكم ذات يوم بأن بلادنا تسكن مع القمر، وتضاجع الشمس وتزغرد مع النجم؟! هذه ليست دعابة، بل تلك الحقيقة عارية مثل تلك التي شاهدتها يوما من ثقب باب القلعة، حتى مفرداتي صارت هذه الأيام فجة لا تطاق، وما حيلتي؟
لقد تربيت وسط الغجر الذين احتالوا على الناس يستوفون حمل بعير من هذه التي رأيتها تتعارك في الجنة، علي أن ألوذ بمعجمي القابع في ذاكرتي، فعند بوابة المدينة يقف من يأخذ من النيل كل ركوبة غصبا!
أعود كل ليلة وأنظر من ثقب الباب الحجري، قيل: إنه يدلف بالمار منه إلى سرداب يفضي إلى ساحة ينتهي بك إلى دار عن يمينها إبل وفي وسطها يقف سياف، لو قرأت عليه تعويذة لسقط وانفتحت لك الخزانة المليئة بالأسرار، ولو دهشت وارتعدت لتجمدت مكانك وتحولت إلى حجر!
أصابني الشغف هذا زمان تحقق الأحلام، ألم أخبركم بأنني مصاب بالبلايا التي تدفع بصاحبها إلى ثقب ممسوس وقلعة تترصدها العيون، وتتعارك في ساحتها جمال وخيول؟
وحتى القرد الذي فسره لي الحكيم بأنني يوما -يبدو أنه مستحيل- سأصير ممسكا بالكتاب وسائرا مع الأغا، فكلما ارتفعت الأرجوحة أدركت أن غطاء عورتي بات مكشوفا، خيبة الله على من سخر من ساقي المدببة مثل إبرة الحياكة التي أشبهها، بالفعل أدمنت فتح فمي يدخل الذباب في وداعة حتى يبيض ويخرج سالما من أنفي، كل هذا وأنا جثة هامدة ملقاة في أجمل الحدائق التي تزدان بالورد وتقطر شهدا؛ أنا من يذم الجمال التي يرتادها القرد معجبا بخاصرته الحمراء!
هذه الأيام أنا مصاب بالهذيان، جاءتني الحمى، وهي رأس الهلاوس التي تمدني بالحكايات الغريبة، الإبل صارت نحيلة حتى أدخلوها سم الخياط، والقرد ارتدى عباءة فاخرة، تزوج حورية عيناها جميلتان، وجهها يقطر لبنا مثل الذي حلبته جدتي من عنزتها “قمرين”. الغريب أن الخيول رقصت طوال الحفل بآذانها، وكانت ذيولها تتحرك مثل ريشة المروحة، النساء عندنا ماهرات في الثرثرة اكتفين بالرقص حتى بانت أثداؤهن الكريهة، كم أغتاظ لأنها مصابة بالتكلس، يبدو أنها ملصقة بالغراء،
احتاج أن يغطي سوءته، وقف فوق جذر شجرة الجميز العتيقة؛ منذ ألف سنة عليه أسرار من نقوش حجرية، هذه تحتاج ألف قميص لعين يعقوب.