1- المسلمون يفتحون مدينة سرقوسة في صقلية:
في اليوم 14 رمضان سنة 264هـ – 21 مارس سنة 878م، كان دخول المسلمين مدينة سرقوسة، وهي أعظم مدن جزيرة صقلية على يد الوالي جعفر بن محمد، وكانت فتوحات الجزر البيزنطية شرقي البحر المتوسط امتدادًا للفتوحات البحرية التي بدأت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتوسع فيها المسلمون في العهد الأموي بداية من عهد معاوية بن سفيان رضي الله عنه وخلفائه من بعده، وكانت سرقوسة من أحصن المدن البيزنطية في جزيرة صقلية، وعز على المسلمين دخولها، وكانت ملاذًا يلوذ به الروم كلما حاصرهم المسلمون في تلك المنطقة، وظلت سرقوسة ممتنعة على الفتوحات، وقصارى كل والٍ أن يبث في أرضها السرايا فيغنم ثم يعود للحصون الإسلامية، ولا يستطيع فتحها كلية، ولكن الوالي المسلم جعفر بن محمد وقتها عزم على امتداد سلطان المسلمين عليها، وقام بالإغارة عليها ومحاصرتها، بعد أن تمكن من السيطرة على قطانية، وطبرمين، ورمطة، وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم، وقد تحصن الروم داخل سرقوسة، وبدأوا في رد مناوشات المسلمين بقوة، واضطر المسلمون لمحاصرة المدينة تسعة أشهر برًا وبحرًا لمنع وصول الإمدادات البيزنطية إليها، يقول “ابن الأثير” في كتابه “الكامل في التاريخ” في وصف فتح “سرقوسة”: نازل سرقوسة، وحصرها برًا وبحرًا وملك بعض أرباضها ووصلت مراكب الروم نجدة لها فسير إليها أسطولًا فأصابوها فتمكنوا حينئذ من حصرها فأقام العسكر محاصرًا لها تسعة أشهر، وفتحت، وقتل من أهلها عدة ألوف، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى، ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ… وأقاموا فيها بعد فتحها بشهرين، وقد كان حصار سرقوسة شديدًا على سكانها، وعانى الروم أشد العناء بعد أن استنفذوا كل المؤن بالمدينة، وخاصة مع شدة إحكام الحصار على كافة المداخل والمخارج، وفي النهاية دخل المسلمون المدينة، وخربوا حصونها التي عزت على المسلمين سنوات طويلة وساقوا الغنائم والأسرى إلى مدينة “بلرم” مقر ولاتهم.
وقد حاول الروم الحيلولة دون سقوط “سرقوسة”، وكانت آخر محاولاتهم أن أرسلوا أسطولًا رومانيًا بحريًا من القسطنطينية لمقاومة المسلمين، ولكن المسلمين بقيادة جعفر بن محمد استطاعوا هزيمة الأسطول البحري وظفروا بأربع قطع بحرية منه، وكان سقوط سرقوسة كارثة كبرى لبيزنطة وسياستها الحربية، فقد انهارت الجهود الجبارة التي بذلتها سنوات طويلة لإعادة النفوذ البيزنطي على ساحل البحر المتوسط.
2- وفاة مظفر الدين كوكبوري شريك صلاح الدين الأيوبي في جهاده:
في مدينة “إربل” كان مولد مظفر الدين كُوكُبُوري في (27 من المحرم 549هـ)، وكلمة “كُوكُبُوري” تركية معناها “الذئب الأزرق”، وقد اشتهر بهذا اللقب تقديرًا لشجاعته وإقدامه، وقد نشأ “مظفر الدين” في كنف والده “زين الدين علي بن بكتكين” حاكم إربل، وعهد به إلى من يقوم على تثقيفه وتربيته، وتعليمه الفروسية وفنون القتال، ثم توفي أبوه سنة (563هـ)، وكان “مظفر الدين” في الرابعة عشرة من عمره، فخلف أباه في حكم إربل، ولكنه كان قاصرًا عن مباشرة شئون الحكم والإدارة بنفسه لصغر سنِّه، فقام نائب الإمارة “مجاهد الدين قايماز” بتدبير شئون الدولة وإدارة أمور الحكم، ولم يبق لمظفر الدين من الملك سوى مظاهره، ولما اشتد عود “مظفر الدين” نشب خلاف بينه وبين الوصي على الحكم “مجاهد الدين قايماز”، انتهى بخلع “مظفر الدين” من إمارة “إربل” سنة (569هـ)، وإقامة أخيه “زين الدين يوسف” خلفًا لمظفر الدين على إربل.
جهاده مع صلاح الدين
اتجه مظفر الدين نحو “الموصل”؛ لعله يجد من حاكمها “سيف الدين غازي الثاني” معاونة صادقة تمكّنه من استرداد إمارته، لكن “سيف الدين” لم يحقق له رغبته، وعوضه عن “إربل” بأن أدخله في حاشيته، وأقطعه مدينة “حران”، فانتقل إليها المظفر، وأقام بها تابعًا لسلطان الموصل، وظل يحكم حران منذ سنة 569هـ حتى سنة 578هـ.
انفصل “مظفر الدين” عن “الموصل” ودخل في طاعة صلاح الدين الأيوبي وحكمه، ومن ثَم انفتح له مجال الجهاد ضد الصليبيين، وأصبح من العاملين مع صلاح الدين الذي أعجب به وبشجاعته، وثباته معه في ميادين الجهاد، وتحول الإعجاب إلى توثيق للصلة بين الرجليْن، فأقدم صلاح الدين على تزويج أخته “ربيعة خاتون” لمظفر الدين، وقد شارك “مظفر الدين” في معظم الحروب التي خاضها صلاح الدين ضد الصليبيين، بدءًا من فتح “حصن الكرك” سنة 580هـ، ومعركة حطين (583هـ) التي حشد لها صلاح الدين ثمانين ألفًا من المجاهدين، كان لمظفر الدين مهمة بارزة في تلك المعركة الخالدة؛ فقد تولى قيادة جيوش الموصل والجزيرة، وأبلى في المعركة بلاءً حسنًا، ويذكر له التاريخ أنه هو الذي أوحى بفكرة إحراق الحشائش التي كانت تحيط بأرض المعركة حين وجد الريح في مواجهة الصليبيين تلفح وجوههم، فلما نفذت الفكرة وأضرمت النار في الحشائش، حملت الريح الدخان واللهب والحرارة إلى وجوه الصليبيين، فشلَّتْ حركتهم عن القتال، وحلت بهم الهزيمة المنكرة.
كوكبوري.. حاكم إنسان
وظل مظفر يشارك صلاح الدين في جهاده حتى تم الصلح بينه وبين ريتشارد ملك إنجلترا في (شعبان 588هـ)، فعاد إلى بلاده، ثم تولى مظفر الدين ولاية “إربل” بعد وفاة أخيه “زين الدين يوسف” سنة (586هـ)، وهنا يبرز دور آخر له لا يقل روعة وبهاء عن دوره في ميادين القتال والجهاد؛ فهو رجل دولة وإدارة يُعنى بشئون إمارته؛ فيقيم لها المدارس والمستشفيات، ويقوم على نشر العلم وتشجيع العلماء، وينهض بالزراعة والتجارة، ويشارك أهل إمارته أفراحهم، ويحيا حياة بسيطة هي أقرب إلى الزهد والتقشف من حياة التوسط والاكتفاء.([1])
أقام مظفر الدين لذوي العاهات دُورًا خاصة بهم؛ خصصت فيها مساكن لهم، وقرر لهم ما يحتاجون إليه كل يوم، وكان يأتي لزيارتهم بنفسه مرتين في الأسبوع؛ يتفقدهم واحدًا واحدًا، ويباسطهم ويمزح معهم، وأقام دورًا لمن فقدوا آباءهم وليس لهم عائل؛ حيث يجدون فيها كل ما يحتاجون، حتى اللقطاء بنى لهم دارًا، وجعل فيها مرضعات يقمن برعايتهم، ومشرفات ينهضن بتربيتهم، وامتدَّ بره إلى فقراء المسلمين في الحرمين الشريفين: مكة والمدينة؛ فكان يرسل إلى فقرائهما كل سنة غذاءً وكساءً، ما قيمته ثلاثون ألف دينار توزع عليهم، كما بنى بالمدينتين المقدستين خزّانات لخزن ماء المطر؛ حتى يجد سكانهما الماء طوال العام، وذلك بعد أن رأى احتياجهما إلى الماء وما يجدونه من مشقة في الحصول عليه، خاصة في مواسم الحج.
وظل مظفر الدين يحكم مدينة إربل نصف قرن من الزمان حتى جاوز عمره الثمانين عامًا، ثم وافاه الأجل في يوم الأربعاء في 14 رمضان عام 630هـ – 30 يونيو 1233م في إربل. ([2])
[1] – أحمد تمام: مظفر الدين كوكبوري.. أمير شجاع وحاكم إنسان
[2] – الذهبي: سير أعلام النبلاء 22/334-337.