“الملك الجديد معجب بكثرة بالإسلام، ومنتقد للتدخل الغربي، ومدافع عن التعددية الثقافية وسيكسب بلاده أصدقاء جددا، وبعض الأعداء الشعبويين، في جميع أنحاء العالم”.. بهذه الكلمات قدّم بن جودا -صحفي بريطاني بصحيفة واشنطن بوست ومؤلف كتاب “هذه لندن”- عيّنة من التحديات الجمة التي تنتظر الملك الجديد في بريطانيا تشارلز الثالث؛ وهو ما يعني أن شخصية الملك الجديد ومواقفه تمثل -في حد ذاتها- تحديا كبيرا مقارنة بوالدته إليزابيث التي تربعت على عرش بريطانيا لمدة سبعين سنة، ونجحت في كسب شعبية كبرى يصعب لمن يرثها أن يرقى إلى المستوى الذي وصلته، علاوة على التحديات التي تشهدها بريطانيا داخليا وخارجيا.
إن الملك تشارلز الثالث يدرك وهو يتربع على عرش بريطانيا في السبعينيات من عمره أن أداء مهامه الملكية –رغم رمزيتها- ليس بالأمر السهل في ظل خلافات في دائرة العائلة المالكة، وفي ظل تغيرات في المشهد السياسي والاجتماعي داخل بريطانيا، وتحولات جغراسياسية كبرى على مستوى العالم.
التشكيك في النظام الملكي في بريطانيا
داخليا، هناك صراع داخل العائلة المالكة، خاصة مع الابن الأصغر هاري الذي جرّد من الامتيازات الملكية. وعبّر الكثير من البريطانيين عن صدمتهم لظهور هاري بزيّ مدني في جنازة الملكة، على خلاف أخيه وليام ووالده الملك تشارلز.
الإشكال أن الملك الجديد يحتاج إلى جهود كبرى لرأب الصدع داخل العائلة المالكة في ظل ارتفاع المشاعر المناهضة للملكية في بريطانيا التي تشكك في مستقبل النظام الملكي بعد وفاة اليزابيث؛ فالانتقادات للنظام الملكي البريطاني تتزايد بسبب ارتفاع تكاليف مصاريف العائلة المالكة، في الوقت الذي تتزايد فيه المصاعب الاقتصادية للمواطن البريطاني. وأظهر بحث جديد أن ما يقرب من 11 مليون شخص يتخلفون عن سداد فواتيرهم، في حين أن أكثر من 5 ملايين يتخلفون عن وجبات الطعام لمجرد الحفاظ على الأضواء. في هذا السياق يُفسَّر تململ الشارع البريطاني بسبب التكلفة الباهظة “لجنازة القرن” للملكة اليزابيث التي تناهز حسب تقارير 10 ملايين جنيه إسترليني (11.4 مليون دولار)، تضاف إليها الكلفة الاقتصادية لأيام الحداد العشرة، وكذلك منح يوم عطلة رسمية موافق ليوم الجنازة بكلفة تقدر بـ1.8 مليار جنيه إسترليني (مليارا دولار).
كما أن التساؤلات قائمة حول فائدة النظام الملكي ومدى قدرته مستقبلا على ضمان الوحدة البريطانية بعد غياب الملكة إليزابيث؛ إذ بوفاتها هناك تخوف من عودة النزعة الاستقلالية لدى الأسكتلنديين والأيرلنديين الشماليين. وعلى الرغم من مبادرة الملك الجديد لكسب ثقة هؤلاء قبيل الاستفتاء الاستشاري على الاستقلال المزمع تنظيمه في 19 أكتوبر المقبل في إسكتلندا؛ فإنه يتعين عليه أن يكون أكثر حرصًا على ضمان الوحدة، خاصة أن الصراعات السياسية بين المحافظين والعمال داخل الأحزاب نفسها محتدمة منذ انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، فيما يعرف بـ”بركسيت“.
وهنا يطرح إشكال آخر يتعلق بشخصية الملك الجديد؛ فهناك الإرث الذي يتابعه في علاقته المتوترة مع زوجته الأولى الأميرة ديانا التي كانت محل إعجاب البريطانيين، وهم يحمّلونه مسؤولية النهاية المأساوية التي آلت إليها هذه العلاقة، في حين أبدى بعض المتابعين للشأن البريطاني تعجبهم لاختياره لقب “تشارلز الثالث” كاسم ملكي، بالنظر إلى ما يحمله هذا الاسم من عناوين سلبية؛ فقد هُزم تشارلز الأول ملك إنجلترا على يد القوات البرلمانية في الحرب الأهلية الإنجليزية، وتم إعدامه لاحقًا سنة 1649، وأعيد ابنه تشارلز الثاني ملكاً لإنجلترا، الذي كان زيرا للنساء وتم نفيه. وبالتالي لا يُنظر بإيجابية لهذا الاسم، ثم أبدى آخرون تخوفهم من أن تشارلز يختلف عن والدته التي كانت تلتزم بطقوس الملكية، وبالحياد وعدم التعبير عن مواقفها الشخصية في القضايا السياسية التي هي من مهام الحكومة؛ حيث عُرف عنه جرأته عندما كان وليا للعهد؛ فهل ستدفعه شخصيته وقد ارتقى عرش الملكية إلى تجاوز واجب التحفظ الذي على الملك الالتزام به؟
مواقف منصفة تجاه الإسلام والمسلمين
ولعل من المسائل التي تثير الملاحظين في الداخل والخارج مواقفه من الإسلام دينا وحضارة؛ حيث لا يخفي تشارلز إعجابه الشديد بالحضارة الإسلامية في مجالات عدة مثل حماية البيئة والتخطيط الحضري الإسلامي عبر القرون، بما في ذلك أنظمة الري في إسبانيا قبل 1200 عام، واحترام حقوق المرأة، ونظام التمويل الإسلامي من حيث اتباع نهج عادل وأخلاقي تجاه إدارة المخاطر النظامية في الاقتصاد والأعمال والتمويل ومحاربة الربا. وفي إحدى المناسبات قال إن الإسلام يمتلك “واحدة من أعظم كنوز الحكمة المتراكمة والمعرفة الروحية المتاحة للبشرية”، وهو تقليد قال إنه تم حجبه بسبب التوجه نحو “المادية الغربية“.
كما أنه انتقد نشر الرسوم الكاريكاتيرية الدانماركية، والتي سخرت من النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصدور كتاب آيات شيطانية لسلمان رشدي، وموجة الإسلاموفوبيا. داعيا إلى احترام التعددية الثقافية والدينية.
ولعل مثل هذه المواقف الجريئة في مسائل حساسة في الغرب، خاصة ما يتعلق بالنظرة للإسلام والمسلمين- في فترة ولاية العهد من بين أسباب الحملة على النظام الملكي في بريطانيا، واعتبار أن أوج الملكية وبريقها انتهيا برحيل الملكة اليزابيث؛ ذلك أن مجموعات ضغط إعلامية وسياسية غير مرتاحة لمثل هذه المواقف التي تحمل قناعات لدى الملك تشارلز لا يمكن أن يتخلى عنها، وستنعكس في سياسته بشكل أو بآخر، ويمكن أن تُحدث تغييرات لدى الرأي العام البريطاني وفي علاقة بريطانيا بمحيطها الأوروبي وعلاقتها بالعالم الإسلامي.
ولعل الأيام القادمة تكشف مدى قدرة الملك تشارلز على رفع التحديات التي تواجهه في مهمته كملك لدولة عظمى، بدأت تتراجع هيبتها في ظل التحولات الدولية والمسار المتصاعد في اتجاه المطالبة باحترام إرادة الشعوب وثقافتها وحرية تقرير المصير وإرساء تعددية قطبية.