الشيخ يوسف القرضاوي في محاضرته “الهجرة.. إلى أين؟”، يقول:
– الوقت لا يوزن بالذهب؛ لأنه الحياة.
– التوكل أن تأخذ بكل ما يستطاع من الأسباب وتدع النتيجة لرب الأرباب.
– سار صلى الله عليه وسلم مع السنن المعتادة ليكون لنا به أسوة حسنة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على الرحمة المهداة سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون، ورضوان الله على آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بسنته وجاهد جهاده إلى يوم الدين، رب اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، اللهم يا معلم آدم وإبراهيم، علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
أحييكم أيها الإخوة بتحية الإسلام، وتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأهنئكم بهذه المناسبة؛ مناسبة العام الهجري الجديد، الذي أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعله عام خير وبركة على أمة الإسلام، وأن يجعل يوم المسلمين فيه خيراً من أمسهم، وغدهم خيراً من يومهم، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، ثم لا يسعني إلا أن أشكر أخي الأستاذ عبد الله العقيل على الثوب الفضفاض الذي ألبسني إياه، ولست له أهلاً، ولعله استوحى كثيراً من صفاته وفضائله فأضفاها على أخيه، وكل ما أستطيع أن أقوله ما كان يقوله سلفنا حين يُمدحون: “اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون”.
يا أيها الإخوة، نحن قد التقينا هنا لنتحدث عن الهجرة، عن هذا الحدث الإسلامي العظيم الذي ألهم الله أمير المؤمنين عمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه أن يجعله بداية تأريخ الإسلام، جئنا نتحدث عن هذا الأمر، وكلما أطل علينا شهر المحرم كان لا بد لنا من وقفتين؛ وقفة المحاسبة على عام انتهى من أعمارنا لا بد للمسلم أن يقف ليحاسب نفسه كما يقف التاجر الحصيف كل عام ليعرف أرباحه من خسائره، ويجرد دفاتره ليعرف موقفه وموقعه ليستفيد من أسباب الربح ويتفادى أسباب الخسارة، هكذا يفعل تجار الدنيا، ولا بد لتجار الآخرة أن يفعلوا هكذا، لا بد من وقفة مع الزمن، لا بد أن يعرف الإنسان ما كسب وما أضاف إلى رصيده عند ربه، وماذا خسر، إن العمر ليس ثروة تافهة، إنه أثمن ثروة، إن أبلغ كلمة قرأناها هي كلمة الإمام الشهيد حسن البنا، رضي الله عنه وأرضاه، الذي قال: “الوقت هو الحياة”، ذلك أن الغربيين يقولون: إن الوقت من ذهب، فكل شيء عندهم يقاس بالمادة بالذهب أو بغيره من المعادن والجواهر، والواقع أن الوقت أغلى من الذهب، وأثمن من الماس، ومن كل جوهر مادي في هذه الحياة، الوقت هو الحياة.. ما حياتك؟ هي الوقت الذي تقضيه من مهدك إلى لحدك، من صرخة الوضع إلى أنَّةِ النزع، ولهذا فإن الذين يريدون أن يقتلوا وقتهم كما يعبرون؛ تعالوا نلعب لنقتل الوقت؛ ما يدري هؤلاء المساكين أنهم حينما يقتلون أوقاتهم، إنما يقتلون أنفسهم، إنما ينتحرون من حيث لا يشعرون، جريمة نكراء لا يحس بها الناس، قتل الوقت، القضاء على الوقت من العادات التي دخلت على مجتمعاتنا تقليداً كتقليد القردة، إن الناس يحتفلون بأعياد ميلادهم كلما مر على الإنسان سنة من عمره، سُمي ذلك عيداً! واحتفل به وأوقد الشموع وجمع على مائدته ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وكان أولى بالمسكين أن يبكي على نفسه، فإن صفحة من كتابه قد طويت، وأن جداراً من بنيان عمره قد تهدم، وأن ماضياً قد ذهب لا يعود.
وما المرء إلا راكباً ظهر عمره
على سفر يفنيه باليوم والشهر
يبيت ويضحى كل يوم وليلة
بعيداً عن الدنيا قريباً إلى القبر
ولهذا، قال الحسن رضي الله عنه: “يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجتمعة؛ كلما ذهب يوم ذهب بعضك”، لهذا كان على المؤمن كلما ودع عاماً واستقبل عاماً أن يسأل نفسه: ماذا صنعت فيه؟ ماذا قدمت فيه لنفسي؟ ماذا قدمت فيه لأسرتي؟ ماذا قدمت فيه لأمتي؟ ماذا قدمت فيه لديني؟ على الناس كلما أقبل عام جديد أن يقفوا وقفة المحاسبة للنفس على زمن مضى، هذه العبرة الأولى عبرة الزمن الذي ينقضي، وهل العمل إلا سنة وراء سنة، والسنة شهر وراء شهر، والشهر أسبوع تلو أسبوع، والأسبوع يوم بعد يوم، واليوم ساعة وراء ساعة، والساعة دقيقة بعد دقيقة، والدقيقة ثانية بعد ثانية، وهكذا العمر أيام معدودة وأنفاس محدودة.
فعلى الإنسان أن يحاسب نفسه كل يوم، لا كل سنة فقط، إنما جعل الله الصلوات كتاباً موقوتاً، وجعل لها أذاناً في كل وقت يؤذن المؤذن (فوق مأذنة مرتفعة) خمس مرات يذكّر الناس بقيمة الأوقات، إذا طلع الصباح أذن المؤذن ليعلن لك أن ليلاً قد ولى ونهاراً قد أقبل، أن ليلاً قد عسعس وصباحاً قد تنفس، وإذا قام الظهيرة أيضاً أعلمك أن النهار قد انتصف، وإذا قرب الأصيل جاء العصر ثم المغرب ثم العشاء، كل هذا ليعلمنا بقيمة الوقت، ويا أيها الإخوة، نحن الأمة الإسلامية، الأمة التي ينبغي أن تكون أحرص الناس على أوقاتها، وللأسف أقل الثروات عندنا قيمة هي ثروة الوقت، مع أن الإنسان لا رأسمال له غير عمره، ولو كان للإنسان عمران لأمكن أن يفرط بأحدهما ويدخر الآخر، ولكنه عُمْر واحد، هناك وزارات في البلاد العربية والإسلامية تعمل بأجهزتها على قتل أوقات الناس وتدمير أعمارهم في اللهو واللعب مما يرى ومما يسمع، هكذا تضيع أوقاتنا، ولهذا ينبغي هنا ونحن نحتفل بالهجرة أن نذكر دائماً بقيمة الوقت، عام مضى ينبغي للأمة باعتبارها أمة أن تقف وقفة تحاسب نفسها على عام سيسألها الله تعالى عنه؛ “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه، ماذا عمل فيه”.
أول ثروة العلم ثروة الوقت؛ العمر عامة والشباب خاصة؛ لأنها سن الحيوية الدافقة في عمر الإنسان.
هذه هي العبرة الأولى ونحن نقف على أبواب عام هجري جديد.
ثم هناك وقفة أخرى، نتذكر فيها هذا الحدث العظيم؛ هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة إلى المدينة، ولا بد للناس أن يتذكروا الأحداث العظيمة في حياتهم، لقد قرأ القارئ في سورة “الأنفال” قوله تعالى: (وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (الأنفال: 26)، اذكروا معنى هذا.
إن هذه الأحداث الكبيرة ينبغي ألا تُنسى، ينبغي أن يضعها الناس نصب أعينهم ليتمثلوها، ويترسموا ما فيها من خطى ليقتبسوا من سناها ويهتدوا بهداها، والهجرة بوصفها حدثاً تاريخياً أمرها معروف، ولعلكم سمعتم كثيراً عن أحداث الهجرة وعن قصصها، والله تعالى قد لخص مجمل هذه القصص في آية من كتابه في سورة “التوبة”، حيث قال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 40)، هذه الخلاصة قصة الهجرة اثنان؛ هما محمد صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبو بكر، أعد كل ما يمكن البشر من الوسائل والأسباب، النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ كل الاحتياطات، ودبر كل ما يستطاع بقدرة البشر، هيَّأ الرفيق، وهيَّأ الدليل، وهيَّأ المكان الذي يتجه إليه، وهيَّأ الرواحل، وهيأ من يأتي بالطعام، ومن يأتي بالأخبار، كل ما يتصور من أمور مادية ممكنة قد فعلها، وترك الباقي لله عز وجل، وهذا هو التوكل الحقيقي، التوكل أن تأخذ بكل ما يستطاع من الأسباب، وتدع النتيجة لرب الأرباب، أن تبذر الحب وترجو الثمار من الرب، وهذا ما أخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ حذره واحتياطه، وعمل كل ما يمكن من تدبير لا مجال لذكره الآن، ولكن حينما جاء القوم المشركون وأحاطوا بالغار، وقال أبو بكر كلمته المعروفة: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، وهذا يؤيد أن الأمر لم يكن أمر حمائم عششت على فم الغار، ولا أمر عنكبوت نسجت، إن أمر الحمائم لم يثبت في حديث، وأمر الشجرة التي نبتت لم يثبت في حديث، وأمر العنكبوت جاء في حديث حسَّنه بعض العلماء وضعَّفه آخرون، والأمر أمر جنود غير مرئية، كما قال الله تعالى: (فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا)، ولهذا قال أبو بكر: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا.. هذا هو القهر الإلهي أن أحدهم لم يكلف خاطره بعد أن ارتكب كل هذه المشقة أن يطأطئ رأسه لينظر أفي الغار أحد أم لا، ولكن لم يفعل، إنه القهر الإلهي؛ لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في ثقة المؤمن وفي إيمان الواثق: “يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ يا أبا بكر، لا تحزن إن الله معنا، لا تحزن إن الله معنا”، من كان الله معه فلن يضيع ولن يضل ولن يذل أبداً، لا تحزن إن الله معنا؛ فأنزل الله سكينته عليه، وأيده بجنود لم تروها، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى.
هذا هو درس الثقة بالله تعالى، ثقة صاحب الدعوة، ثقة المؤمن بربه، ونحن نعرف قصة سراقة الذي غره بريق الجوائز التي رصدتها قريش لمن يأتي برأس محمد وصاحبه حيين أو ميتين 100 ناقة لكل منهما، ولكن ماذا حدث؟ ساخت أقدام فرسه ولم ينجه إلا أن يتجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه الأمان، ويقول له النبي عليه الصلاة والسلام، وهو مهاجر مطارد من بلده: “كيف بك يا سراقة إذا ألبسك الله سواري كسرى”! يقول له كسرى بن هرمز، ويعيش سراقة إلى زمن الفتح في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وينادي عمر في يوم جاءت الغنائم من بلاد كسرى ويلبسه سواري كسرى، ويقول: الحمد لله الذي أذل كسرى بن هرمز وأعز بالإسلام سراقة بن مالك أعرابياً من بني فلان، هكذا هي الثقة، درس الثقة بالله عز وجل.
ثم درس آخر نأخذه من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هو أن الله سبحانه وتعالى كان قادراً على أن ينقل محمداً صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة على ظهر براق كبراق الإسراء يضع قدمه عند أقصى طرفه في لحظات، يمكن لهذا البراق أن ينقل محمداً صلى الله عليه وسلم، ولكن الله لم يفعل، ليس ذلك لهوان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ربه، كلا، إنما أراد له أن يسير على سننه المعتادة في الكون، أن يواجه الحياة بسرائها وضرائها، أن يحاول ويجتهد ويأخذ بالأسباب، ويختفي في غار قد تكون فيه الأفاعي أو العقارب، ويواجه الخوف، يسلك طريق الأنبياء من قبله، وطريق المؤمنين من بعده، هي طريق واحدة، طريق مفروشة بالأشواك مضرجة بالدماء؛ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214).
إن الله سبحانه وتعالى ترك نبيه صلى الله عليه وسلم يسير مع السنن المعتادة، ليكون لنا به أسوة، لو فعل معه ذلك نقول إذا طلبنا للجهاد ومن أجل الإسلام ولدعوة الإسلام نقول: ومن أين لنا ببراق نركبه لنهاجر به كما فعل به النبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم واجه الحياة بهذا كله، كما تعلمون حياة كلها سلسلة دامية الحلقات منذ بدأ الدعوة في مكة وظل ثلاثة عشر عاماً يجاهد هو وأصحابه، يذوقون الصاب والعلقم، لا يبالون ما يصيبهم في سبيل الله.
وبعد الهجرة أيضاً تبدأ حلقات جديدة من الجهاد، جهاد من نوع آخر، إنه الجهاد المسلح الدامي سبع وعشرون غزوة، حضر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، وعشرات السرايا بعث بها أصحابه، كل هذا لنعلم أن حياة الدعوة ليست حياة دعة وليست حياة راحة وليست حياة استكانة وإخلاد إلى الهدوء، وإنما هي حياة صراع مع الباطل، وجهاد مع الكفر بكل ألوانه وبكل صوره.
يا أيها الإخوة، إن دروس الهجرة وعبر الهجرة كثيرة، ولكني لا أريد أن أقف طويلاً عندها، فإن الإخوة حين دعوني إلى هذا الحديث أو لهذه المحاضرة اختاروا لي عنوان “الهجرة.. إلى أين؟”، وهذا العنوان يحتم على المحاضر أو المتحدث أن يتحدث عن موقفنا نحن الآن، ماذا لنا من الهجرة؟ إن الهجرة التي فرضها الله على المؤمنين من مكة إلى المدينة قد انتهت منذ الفتح، وأعلن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء ذلك في الصحيحين: “لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا”، لا هجرة بعد الفتح؛ أي: لا هجرة إلى المدينة، ولكن هناك ألوان من الهجرة باقية، هناك الهجرة من أرض المعصية إلى أرض الطاعة، ومن أرض الشرك إلى أرض التوحيد، ومن أرض البدعة إلى أرض السُّنة، ومن أرض الجاهلية إلى أرض الإسلام، وهذه هي روح الهجرة الأولى.
لماذا فرض الله الهجرة؟ قال الله تعالى: (فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ) (النساء: 89)، وقال: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ) (الأنفال: 72)، لماذا فرضت الهجرة؟ لأنه قامت في المدينة جماعة تتبنى الإسلام رسالة حياة، ومنهج حياة منهجاً كاملاً للفرض وللأسرة وللعلاقات الاجتماعية والعلاقات السياسية والعلاقات الاقتصادية والعلاقات الدولية، نظاماً كاملاً قامت به جماعة على رأسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تتخذ الإسلام دستوراً ومنهاجاً لحياتها، قامت لأول مرة في تاريخ هذه الأمة الجماعة الأولى الجماعة الإسلامية أو إن شئت قل الدولة الإسلامية الأولى، فمؤسس الدولة الإسلامية ليس هو عمر بن الخطاب، ولكن مؤسسها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل معالم الدولة وعناصر الدولة قامت بالمدينة، وهي دولة فريدة في عالم ذلك اليوم، دولة ربانية، دولة إنسانية، دولة عالمية، دولة أخلاقية، دولة قامت على التوحيد على إفراد الله تعالى بالربوبية والألوهية والحاكمية، هذه هي دولة الإسلام التي قامت بالمدينة، لا رب إلا الله، ولا نسب إلا تقوى الله، ولا رابطة إلا دين الله، ومحيت العصبيات، ومحيت الولاءات إلا الولاء للإسلام، قام المجتمع في المدينة على هذه الأسس الربانية الإيمانية الخالصة.
كان يمكن أن يقوم في هذا المجتمع أشياء تفرق الناس بعضهم من بعض، كان يمكن أن تقوم نزعات جاهلية، ويمكن أن تقوم نزعات عنصرية؛ يقول الأوس والخزرج: نحن عرب قحطانيون، وهؤلاء المهاجرون قريشيون عدنانيون، يمكن أن تقوم نزعات من هذه النزعات القبلية، وممكن أن تقوم نزعات إقليمية؛ فيقول الأنصار: نحن أصحاب الدار وأهل البلاد، وهؤلاء دخلاء علينا يقاسموننا الثمرات ويشاركوننا الأموال، كان ممكن أن تقوم نزعات عنصرية؛ يقول قوم: ما لنا وبلال الحبشي، ولصهيب الرومي، ولسلمان الفارسي؟ كان يمكن أن تقوم نزعات طبقية بسبب الغنى والفقر وتفاوت المراكز الاجتماعية، ولكن هذا كله لم يكن؛ لأن الإسلام كان هو مظلة الجميع، كان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يضم في صدره الحنون وفي رحابه الفيحاء العربي والعجمي والأبيض والأسود والبدوي والحضري والغني والفقير والرجل والمرأة والسيد والعبد، كل هؤلاء إخوة يصلون وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، آخى بينهم الإسلام، آخى الإسلام بين الجميع، هذه هي الدولة التي قامت في المدينة، فالهجرة لم تكن إلا من أجل إقامة هذه الدولة وهذه الجماعة، قامت للمجتمع المسلم المتميز الفريد، هذه هي روح الهجرة.
هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن فراراً ولا هرباً ولا شيئاً من ذلك، إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه ليتفرقوا في الأرض، وإن الله تعالى سيجمعهم، وذهبوا إلى الحبشة، ولكنه لم يذهب؛ لأنه لم يكن يستطيع أن يقيم مجتمعاً إسلامياً ودولة إسلامية في الحبشة، لكن لما لاحت الفرصة ليقيم هذا المجتمع بإسلام الأوس والخزرج وتمت بيعة العقبة، هنالك التقى ليقيم الدولة الإسلامية، فكانت فريضة على كل من دخل الإسلام في ذلك الوقت أن يهاجر ليشد عضد هذه الدولة الفتية الناشئة، ويشد أزرها، ويبذل من جهده وماله وخبرته ونفسه لتأييدها، هذا هو الأمر الذي لا بد منه، نحن في عصرنا لا نجد جماعة متميزة نستطيع أن نقول عنها هذه جماعة الإسلام، ولا دولة متميزة نقول عنها هذه هي دولة الإسلام في الأرض، لم توجد دار للإسلام كما وجدت المدينة من قبل، لم نجد دولة حتى الآن تتبنى الإسلام، كما تتبنى روسيا أو الصين المبدأ الشيوعي، لم نجد هذا للأسف، رغم أن هناك من يصلي ومن يصوم ومن يزكي ومن يحج ومن يعتمر، ولكن لم تقم للإسلام هذه الدولة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العدد (332)، ص14-18، 21 المحرم 1397هـ/ 11 يناير 1977م.