سعد سعيد الديوه جي
نقصد باضطراب الهوية التركية تأرجحها، بين الحفاظ على إرث تاريخي وديني طويل، والتطلع للمستقبل ضمن هذا الإطار، وبين سلخ الماضي وتقليد الغرب في كل شيء.
فمن المعلوم أن الجمهورية التركية الحالية قامت على أنقاض الدولة العثمانية التي حكمت معظم الشرق الإسلامي وأجزاء لا يستهان بها من أفريقيا وأوروبا الشرقية، وامتد بها العمر لأكثر من 6 قرون (1299 – 1923م)، وكان طابع الدولة إسلامياً، ولم يكن قومياً، رغم أن السلطة بيد العائلة العثمانية وهي ذات أصول تركية، ويُعتبر فيها الحاكم «خليفة» لكل المسلمين.
بعد دخولها الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918م)، خسرت الدولة العثمانية كل شيء، حتى عاصمتها «إستانبول»، لتستعيد بعدها أراضي الأناضول في حرب سُميت بـ«حرب الاستقلال» (1919 – 1923م)، وبعد أن فُرضت عليها شروط مهينة في معاهدة «لوزان» وغيرها.
في عام 1923م، تم الإعلان عن قيام الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال الذي لُقب بـ«أتاتورك»؛ أي «أبو الأتراك».
في العام نفسه، أسس أتاتورك حزب الشعب الجمهوري بـ6 مبادئ، هي: «الجمهورية، القومية، سيطرة الدولة، الشعبوية، العلمانية، الاشتراكية»، حيث نلاحظ غياب الديمقراطية، والتأكيد على العلمانية والقومية التي كان يقصد بهما أن كل سكان الجمهورية أتراك ولا غير، وأما الاشتراكية كانت محض خيال.
ومن تحت أضواء هذه الشعارات أراد أتاتورك أن يقلب طبيعة المجتمع التركي – العثماني رأساً على عقب من خلال تفسيره للعلمانية وجعلها في عداء مكشوف للدين وكل الإرث التاريخي للدولة العثمانية، وكانت هذه المسألة من شروط معاهدة «لوزان» المهينة، كما يقال على الأغلب.
تحت أضواء هذه الشعارات، بدأ أتاتورك بتطبيق شعاراته بقسوة مفرطة لمخالفيه، على أساس أنه بطل الاستقلال يحق له ما لا يحق لغيره، فأعدم البعض وسجن البعض الآخر.
فباسم العلمانية ألغى الإرث الديني جملة وتفصيلا، فألغى الحروف العربية والأذان للصلاة وجعله باللغة التركية، وهي سابقة لم يجرؤ غيره أخذها طوال التاريخ، وكذلك ألغى الحج وقراءة القرآن باللغة العربية، وباع الأوقاف الإسلامية، واتخذ من الاستهزاء وسيلة للانتقاص من القرآن وكل ما يتعلق بالشعائر الدينية، وهناك كثير من التفاصيل في كتاب «الرجل الصنم» لمن أراد أن يعرف المزيد.
أما القومية فكان مفهومها إلغاء كل الإثنيات غير التركية ثقافة ووجوداً، وخاصة الإثنية الكردية، وسمى الكُرد «أتراكاً جبليين»!
وبهذه السيرة اعتقد أتاتورك وأنصاره أنهم صاروا جزءاً من الحضارة الأوروبية، وأنه سيقضي على إرث عمره 6 قرون.
بعد وفاة أتاتورك عام 1938م، بمرض تشمع الكبد نتيجة إدمانه على الخمر، استلم القيادة عصمت إينونو، وسار على نهجه وعلى شعارات حزب الشعب الجمهوري جملة وتفصيلاً.
ورغم عدم اشتراك تركيا بالحرب العالمية الثانية، فإنها دخلت «حلف شمال الأطلسي»، الذي اشترط إدخال الديمقراطية للنظام في البلاد، فاستغل ذلك عدنان مندريس الذي انشق عن حزب الشعب الجمهوري مع جلال بايار وجمع غفير من المعارضين للنهج الأتاتوركي، وأسسوا الحزب الديمقراطي الذي دخل الانتخابات النيابية، وحصل على الأغلبية البرلمانية بين عامي 1950 – 1960م، وصار عدنان مندريس رئيساً للوزراء، وجلال بايار رئيساً للجمهورية.
أبطل مندريس معظم ما قام به حزب الشعب الجمهوري من قرارات تمس الشعائر الدينية، واستطاع إنجاز إصلاحات اقتصادية خصوصاً في مجالي إنشاء السدود والزراعة، فكان جزاؤه أن اتهموه بالخيانة العظمى، بعد أن قام الجيش بانقلاب في 27 مايو 1960م، بقيادة جمال جورسيل، وحكم على مندريس واثنين من وزرائه بالإعدام بتهمة قلب النظام العلماني وتأسيس دولة دينية، ونفذ الإعدام في 17 سبتمبر 1961م.
وتعتبر عملية إعدام مندريس نقطة سوداء في التاريخ التركي الحديث، لما رافقتها من إهانات وتحقير لمندريس، والحقيقة أن هناك مراكز قوى عديدة لا تريد لتركيا استعادة هويتها الأصلية، وتقف بعض قوى الجيش على رأسها، وهي خليط من شيوعيين وقوميين متعصبين (فاشست)، ومراكز مالية مهمة تقف الماسونية على رأسها.
ظهرت لاحقاً أحزاب وشخصيات أرادت أن تعيد لتركيا بعضاً من أجزاء هويتها الممزقة على طريقة مندريس، كنجم الدين أربكان (ت 2011م)، وكانت معظم هذه الشخصيات والحركات تنتهي بانقلابات عسكرية أو اعتقالات في السجون، ولعل آخر انقلاب فاشل، في 15 يوليو 2016م، ما زال عالقاً في الأذهان، الذي أراد الإطاحة بحزب العدالة والتنمية ورئيسه رجب طيب أردوغان.
لقد كان انقلاباً دموياً ذهب ضحيته المئات لم تعرف تركيا مثله على مدار مائة عام، والقوى التي قامت بالانقلاب من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها هي التي أعدمت مندريس، رحمه الله، وتتدثر بغطاء حزب الشعب الجمهوري رغم انتمائها لتيارات غير متجانسة، وهي مسألة في غاية الغرابة في عالم السياسة.
ورغم أن تيار أردوغان ليس تياراً دينياً بمعنى الكلمة، وهو أقرب للعلمانية المعتدلة، ويحاول أن يجمع كل الإثنيات تحت راية واحدة، ويشجع على الاعتزاز بالإرث العثماني الطويل وظله الإسلامي، فإن ذلك لا يرضي القوى المعارضة لهذا النهج، وتتمسح بالحضارة الغربية، وتريد أن تعطي هوية جديدة للجمهورية التركية، قد تدفع البلاد إلى نوع من الفوضى لم تمر بها على مدى قرن من الزمان.