لليهود والصهاينة دعاوى عريضة، يزعمون بها أن لهم حقًا في القدس أو في فلسطين كلها، وهم يتبجحون بهذه الدعاوى، التي لا سند لها من الدين ولا من التاريخ، وإن أسندوها زورًا إلى الدين وإلى التاريخ.
لا حق لليهود في القدس ولا في فلسطين
ونؤكد هنا بما لا يدع مجالاً للشك: أن القدس عربية إسلامية، كما أن فلسطين كلها عربية إسلامية، وليس لليهود فيها أي حق، حتى يسلبوها من أهلها، ويحولوها إلى عاصمة لدولتهم القائمة على الاغتصاب والعدوان.
إن اليهود يزعمون أن لهم حقًا تاريخيًا، وحقًا دينيًا في فلسطين، والواقع أنهم مغتصبون لأرض غيرهم، وليس لهم أدنى حق في هذه الأرض، لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية الدينية. كما سنبين ذلك فيما يلي.
مناقشة عامة
وقبل أن ندخل في مناقشة الحق المزعوم لليهود في فلسطين تود أن تسألهم: لماذا لم يظهر هذا الحق طوال القرون الماضية؟ بل لماذا لم يظهر في أول الأمر عند ظهور الصهيونية السياسية المنظمة على يد (هرتزل)؟ فمن المعروف أن فلسطين لم تكن هي المرشحة لتكون الوطن القومي لليهود. بل رشحت عدة أقطار في أفريقيا وأمريكا الشمالية كذلك ولم تظهر فكرة فلسطين – باعتبارها أرض الميعاد – إلا بعد فترة من الزمن.
لقد حاول هرتزل الحصول على مكان في (موزمبيق) ثم في ( الكنغو) البلجيكي. كذلك كان زملاؤه في إنشاء الحركة الصهيونية السياسية، فقد كان ” ماكس نوردو” يلقب بالإفريقي، و” حاييم وازيمان” بالأوغندي، كما رشحت ( الأرجنتين) عام 1897 و (قبرص) عام 1901، و(سيناء) في 1902 ثم(أوغندا) مرة أخرى في 1903 بناء على اقتراح الحكومة البريطانية. وأصيب هرتزل بخيبة أمل كبيرة لأن اليهود في العالم لم ترق لهم فكرة دولة يهودية سياسية، سواء لأسباب أديولوجية أو لأنهم كانوا عديمي الرغبة في النزوح عن البلاد التي استقروا فيها. بل إن مؤتمر الحاخامات الذي عقد في مدينة فيلادلفيا في أمريكا في أواخر القرن التاسع عشر أصدر بيانًا يقول: إن الرسالة الروحية التي يحملها اليهود تتنافى مع إقامة وحدة سياسية يهودية منفصلة! وإزاء هذا فكر “هرتزل” في طريقة يواجه بها هذا الوضع، وهداه تفكيره إلى أن يحول الموضوع إلى قضية دينية يلهب بها عواطف جماهير اليهود. ورأى أن فلسطين هي المكان الوحيد الذي يناسب هذه الدعوة الجديدة، ولليهود بفلسطين علائق تاريخية ولهم فيها مقدسات دينية، وارتفعت راية الدين على سارية المشروع والتهبت العواطف، وانتصر رأي ” هرتزل” وإن يكن بعد وفاته، فقد احتضن المؤتمر اليهودي العالمي فكرة الوطن اليهودي في فلسطين عام 1905، بعد موته بسنة.
أولاً: بطلان دعوى الحق التاريخي
من المعروف تاريخيًا: أن أول من بني القدس هم “اليبوسيون” وهم قبيلة من قبائل العرب القدامى، نزحت من شبه الجزيرة العربية مع الكنعانيين، وذلك منذ نحو ثلاثين قرنًا قبل الميلاد، وكانت تسمى “أورشالم” أو مدينة “شالم”، وهو إله اليبوسيين، كما احتفظت باسمها الأول “يبوس” نسبة إلى القبيلة، وقد ورد ذكر هذا الاسم في التوراة.
وبعد ذلك سكن القدس وسكن فلسطين عامة العرب الكنعانيون وغيرهم قرونًا وقرونًا، إلى أن جاءها إبراهيم عليه السلام مهاجرًا من وطنه الأصلي بالعراق، غريبًا، وقد دخل فلسطين هو وزوجه سارة، وعمره ـ كما تقول أسفار العهد القديم ـ (75) سنة.
ولما بلغ (100) سنة ولد له إسحاق، ومات إبراهيم وعمره (175) سنة، ولم يمتلك شبرًا من فلسطين، حتى إن زوجه سارة لما ماتت طلب من الفلسطينيين لها قبرًا تدفن فيه.
ولما بلغ إسحاق (60) سنة ولد له يعقوب، ومات إسحاق وعمره (180) سنة، ولم يملك شبرًا أيضًا منها.
ارتحل يعقوب بذريته بعد أبيه إلى مصر، ومات بها وعمره (147) سنة، وكان عدد بنيه وأولادهم (70) نفسًا لما دخلها، وكان عمره (130) سنة.
ومعنى هذا أن المدة التي عاشها إبراهيم وابنه إسحاق، وحفيده يعقوب في فلسطين: (230) سنة، وقد كانوا فيها غرباء لا يملكون من أرضها ذراعًا ولا شبرًا.
وتقول التوراة: إن المدة التي عاشها بنو إسرائيل بمصر حتى أخرجهم موسى: (430) سنة، كانوا أيضًا غرباء لا يملكون شيئًا، كما تقول التوراة: إن المدة التي عاشها موسى وبنو إسرائيل في التيه بسيناء (40) سنة، أي ان العهد الذي صدر إليهم من الله مضى عليه حينذاك (700) سبعمائة سنة، وهم لا يملكون في فلسطين شيئًا.
ومات موسى ولم يدخل أرض فلسطين، إنما دخل شرقي الأردن ومات بها والذي دخلها بعده: يشوع (يوشع)، ومات بعد ما أباد أهلها (كما تقول التوراة). وقسم الأرض على أسباط بني إسرائيل، ولم يقُم لبني إسرائيل ملك ولا مملكة، وإنما قام بعده قضاة حكموهم (200) سنة، ثم جاء بعد القضاة حكم الملوك: شاؤول وداود وسليمان، فحكموا (100) سنة، بل اقل، وهذه هي مدة دولتهم، والفترة الذهبية لهم. وبعد سليمان انقسمت مملكته بين أولاده: يهوذا في أورشليم، وإسرائيل في شكيم (نابلس)، وكانت الحرب بينهما ضروسًا لا تتوقف، حتى جاء الغزو البابلي فمحقهما محقًا، دمر الهيكل وأرشليم، وأحرق التوراة، وسبى كل من بقي منهم حيًا، كما هو معلوم من التاريخ.
ويعلق على ذلك الشيخ عبد المعز عبد الستار في كتابه (اقترب الوعد الحق يا إسرائيل) قائلاً:
(فلو جمعت كل السنوات التي عاشوها في فلسطين غزاة مخرّبين، ما بلغت المدة التي قضاها الإنجليز في الهند أو الهولنديون في إندونيسيا! فلو كان لمثل هذه المدة حق تاريخي لكان للإنجليز والهولنديين أن يطالبوا به مثلهم.
ولو كانت الأرض تملك بطول الإقامة في زمن الغربة، لكان الأولى بهم أن يطالبوا بملكية مصر التي عاشوا فيها (430) سنة بدل فلسطين التي عاش فيها إبراهيم وأولاده (200) سنة أو تزيد قليلاً ودخلوها شخصين وخرجوا (70) نفسًا!
لكن هؤلاء اليهود لا يدعون الحق في امتلاك أرض فلسطين وحدها، وإنما يدعون الحق في امتلاك الكرة الأرضية كلها.
الله تعالى يقول: {والأرض وضعها للأنام} الرحمن: 10 أي لجميع الخلق، وهؤلاء يقولون: ( حين قسم العلي الأمم وفرق بني آدم وضع تخوم الأرض على عدد أسباط بني إسرائيل) ، ويقولون كما جاء في سفر يشوع : (كل موضع تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم)، فعلى مقتضى هذا المبدأ والقانون يكون من حقهم أن يطالبوا بمصر وكل أرض وطئوها.
بل في نكبة (5 يونيو 1967) سأل مندوب الأسوشيتدبرس جنديًا إسرائيليًا: ما هي حدود دولة إسرائيل؟ فأجابه بكل صلف وغرور: (حيث أضع قدمي)، وضرب بحذائه الأرض.
إن الحق التاريخي الذي يدعونه ـ كما يقول الشيخ عبد المعز ـ خرافة وصلافة، فهم لم يقيموا في فلسطين إلا غرباء، كما تصرح بذلك الأسفار، فهل للغريب أو عابر السبيل أن يدعي ملكية الأرض التي أقلته، أو الشجرة التي أظلته، لأنه قال تحتها ساعة من نهار؟ على أنهم لم يقيموا بها آمنين عاملين مستثمرين، وإنما أقاموا في سلسلة متصلة من الغارات الدامية، والحروب الدائرة التي لم تتوقف فيما بينهم بعضهم وبعض ” يهوذا وإسرائيل”، وفيما بينهم وبين الفلسطينيين.
وقد بلغ عدد من قتلوا من الفلسطينيين مائتي ألف قتيل ، وعدد من قتلهم داود وحده بعد ذلك أكثر من (100) ألف قتيل ، ـ حسب قول كتبهم ـ ثم دهاهم الغزو البابلي فبددهم.
على أنهم لم يكادوا ينفكون من الغزو البابلي، حتى جاءهم الغزو الروماني فأباد خضراءهم ومزقهم كل ممزق، ثم جاء الفتح الإسلامي وهم مشردون في الأرض، محّرمٌ عليهم أن يقيموا في أورشليم، حتى إن البطريك صفرنيوس بطريرك القدس شرط على أمير المؤمنين عمر وهو يسلمه مفاتيح القدس؛ ألا يسمح لليهود بدخول إيليا أو الإقامة فيها.
لقد دخلها العرب وهي خالية من اليهود، بعد ما طردهم الرومان، وأسلم أهلها، وبقي العرب فيها أكثر من ألف وأربعمائة عام، أفلا يكون لهم حق تاريخي مثل اليهود؟
___________________________________
المصدر: كتاب «القدس قضية كل مسلم» لفضيلة الإمام د. يوسف القرضاوي رحمه الله.