إذا كان واقع التعليم في عالمنا العربي، وتحديداً في شمال أفريقيا، لا يزال في وضع صعب، وفق إحصاءات الأمم المتحدة، فإن تأثير ذلك يبدو مضاعفاً في حالة تعليم الدين، خاصة في المدارس المدنية، التي تحولت فيها «التربية الدينية» إلى مادة أقل من ثانوية في عديد البلدان، ما يحتم على المختصين بالشأن التعليمي والتربوي تقديم مبادرات عاجلة لمواجهة الخلل المزمن، خاصة في مؤشرات التأثير المدمر لشبكات التواصل الاجتماعي على القيم الدينية للأطفال والشباب.
إن حالة الانحدار العامة في «جودة التعليم» بعالمنا العربي قد انعكست على واقع تعليم الدين أيضاً، بحسب التقرير العالمي لرصد التعليم عامي 2021 و2022 الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونسكو)، الذي تناول دور الجهات الفاعلة غير الحكومية في التعليم، وكيفية تأثيرها على الجودة والإنصاف والشمولية في التعليم.
ويقدم التقرير واقعاً بائساً للتعليم في عالمنا العربي بوجه عام، والتعليم الديني بوجه خاص، مشيراً إلى أن المؤسسات الدينية تقدم خدمات تعليمية لأكثر من 40 مليون طالب في الدول العربية، لكن ترهلها الداخلي واحتياجها للإصلاح جعلها فاقدة للفاعلية المنشودة، على التوازي مع تهميش بعض الحكومات لمادة التربية الدينية ضمن منظومتها للتعليم العام.
كما أن التباين في مفهوم وأهداف ومحتوى وطرق التعليم الديني بين البلدان العربية، حسب المذهب أو المدرسة أو المؤسسة أو المنهج أو المستوى، يؤدي إلى عدم توحيد المعايير والمؤشرات والآليات لضمان جودة وفاعلية التعليم الديني، وإلى عدم تكامله مع باقي مكونات المنظومة التربوية، فضلاً عن انغلاق التعليم الديني على نفسه وعزله عن باقي مجالات المعرفة، وهو ما نوه به تقرير «التعليم للجميع» بسلطنة عُمان منذ عام 2014م، ولا يزال مستمراً حتى عام 2023م.
ويظهر تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن جودة قطاع التعليم في 76 دولة بينها 9 عربية، أن جودة التعليم في الدول العربية ضعيفة مقارنة بالدول الأخرى؛ ما أرجعته المنظمة إلى عوامل مثل الميزانيات المحدودة، وغياب الفلسفة والإستراتيجية التعليمية، وضعف البنى التحتية والتجهيزات المدرسية، وتخلف المناهج المدرسية، وغياب المواد التي تنمي الحس النقدي والتفكير الإبداعي.
ووفق التقرير العالمي لرصد التعليم، فإن هذا الانغلاق يتسبب في حالة غير قادرة على مواكبة التطورات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية والاقتصادية، وغير قادرة على تحقيق التفاعل والحوار والانفتاح مع الآخر المختلف في الدين أو الثقافة أو الرأي.
ويؤكد التقرير، الذي خصص فصلاً خاصاً عن التعليم الديني وبحث في التحديات التي تواجهه وأثرها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة، أن انخفاض مستوى كفاءة المدرسين المسؤولين عن تدريس التربية الدينية أحد أهم هذه التحديات، إذ تعاني عديد البلدان العربية من نقص في هذا الإطار، إلى الحد الذي يدفع بالعديد منها إلى توظيف معلمي اللغة العربية معلمين للتربية الدينية أيضاً، وغالبية هؤلاء المعلمين لا يتمتعون بخبرة أكاديمية أو بحثية أو تربوية في مجال التعليم الديني، ولا يتلقون تدريبات أو دورات أو ورش عمل تحسن من مهاراتهم وقدراتهم في التعامل مع المتعلمين والمناهج والتقنيات، بحسب التقرير.
ويضاعف من هذا الانحدار في مستوى التعليم الديني ضعف الإشراف والتقويم والمتابعة في المدارس، بل وحتى في بعض كليات العلوم الدينية، فلا توجد آليات فعالة لضمان جودة التعليم الديني ومراقبة تنفيذه وتقييم نتائجه وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح.
وإزاء ذلك، باتت منظومة التعليم الديني مفتقرة إلى مؤشرات واضحة وموضوعية لقياس مدى تحقيق أهدافه وتأثيره؛ ما يستلزم إطلاق مبادرات إنقاذ عاجلة من مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة في محاولة لمعالجة أسباب الانحدار، وتحسين وضع التعليم الديني في العالم العربي.
وفي هذا الإطار، أرى أن منطلقات مثل هذه المبادرة يجب أن تقوم على معالجة مكامن الخلل بالأساس، عبر صياغة مفهوم وأهداف ومحتوى وطرق التعليم الديني بشكل يتوافق مع رؤية شاملة ومتكاملة للتعليم، وفي «سياق مقارن» من شأنه أن يفيد منهجياً في إنهاء حالة التلقين المزمنة في مؤسسات التعليم العربية.
ويمكن في هذا الصدد استلهام تجربة رائدة لدعاة غير المسلمين، المتخصصين في مجال مقارنة الأديان، خلال السنوات العشر الماضية، التي أسفرت عن حالة وعي جيدة بين متابعيها، ليس فقط بقيم الإسلام العظيم، بل بمعرفة الديانتين، المسيحين واليهودية، من منظور قرآني أولاً، ثم من منظور أهل الكتاب ثانياً.
وقد قدم تيار «مقارنة الأديان»، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، نماذج على أن الابتعاد عن التقليدية في التعليم الديني هو ما يسفر عن قصص نجاح، تنمي الثقافة والوعي لدى المسلمين من جانب، وتكون سبباً في دخول غير المسلمين في دين الله أفواجاً من جانب آخر، وهو ما ترجمه عملياً دعاة من أمثال: د. منذر السقار، ود. هيثم طلعت، ومعاذ عليان، ومحمود داود، وأبو عمر الباحث.
إن الفائدة التي يمكننا رصدها من هذا الأسلوب في الدعوة والتعليم الديني لا تقتصر على دخول الكثير من غير المسلمين في دين الهدى والحق، بل في ترسيخ حالة وعي ديني جمعي قائم على الحجة والمنطق والبرهان، وليس على الوعظ العاطفي أو تكرار نسخ ولصق عبارات الأقدمين في كتب التراث؛ وهو ما أسفر عن نشوء تيار متمدد في عالمنا العربي، كان له بالغ الأثر في زيادة كبيرة في أعداد من يقبلون على دخول الإسلام.
وتشهد مصر، تحديداً، ازدهاراً كبيراً لهذا التيار، الذي بلغ تأثيره حد تخصيص بابا الكنيسة الأرثوذكسية القبطية تواضروس الثالث نحو نصف عظته للأسبوع الثاني من يوليو للتحذير من خطر هذا التيار وتأثيره على إيمان المسيحيين، وذلك بعد توالي حالات إشهار الإسلام عبر مقاطع فيديو مدعومة بوثائق تغيير الديانة من المسيحية إلى الإسلام.
إن تطوير مثل هذا النموذج، منهجياً، عبر مؤسسات التعليم الديني الرسمية في عالمنا العربي، يمكن أن يمثل علاجاً ناجعاً لتقليدية التعليم الديني التلقيني من جانب، وتلافي الظواهر السلبية التي خلفها تيار «الدعاة الجدد»، الذي طالما ارتكز على وعظ يتسم بضعف التكوين العلمي.
وفي هذا الإطار، نرى ضرورة تشجيع التبادل والتعاون بين المؤسسات والخبراء في مجال التعليم الديني على مستوى إقليمي أو دولي، وإثراء هذا المجال بأساليب تفاعلية تساهم في تطوير المهارات في تحليل النصوص في إطار منهجية منطقية.
وإلى حين تبلور مبادرة تعاون مشترك في هذا الإطار، فإن رفع مستوى كفاءة المدرسين المسؤولين عن تدريس التعليم الديني في عالمنا العربي هو حالة الإسعاف الطارئة التي لا ينبغي تأخيرها.
إن توفير برامج تدريبية وتأهيلية وتحديثية للمدرسين، تعزز من مهاراتهم وقدراتهم في التعامل مع المتعلمين والمناهج والتقنيات، لم يعد رفاهية يمكن الاستغناء عنها، بل يجب تشجيع المدرسين على الانخراط في البحث العلمي والابتكار التربوي في مجال التعليم الديني، ولعل في تجربة «المقارنين الجدد» مصدر إلهام لواقع يمتزج فيه التعليمي والدعوي في آن واحد.