عندما نطالع وقائع الهجرة النبوية إلى المدينة، وهذا الاستقبال بالغ الحفاوة الذي قوبل به صلى الله عليه وسلم، لا ريب أنه ينتابنا شعور بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قد أتى وطنه الذي نشأ وترعرع فيه.
وما إن وصلها النبي صلى الله عليه وسلم، حتى شرع في إرساء دعائم بناء الدولة الإسلامية سيدًا مطاعًا، فيبني مسجدًا للعبادة وليكون مقر الدعوة، ويؤاخي بين المهاجرين والأنصار، ويصلح بين الأوس والخزرج، ويبرم المعاهدات مع اليهود، فكيف بلغ هذا التمكين قبل أن تخطو قدماه أرض يثرب؟
هذا المشهد ثمرة جهود دعوية عظيمة سبقت الهجرة، بطلها الأول هو الصحابي مصعب بن عمير، ذلك الشاب الذي وطّأ المدينة لهجرة المسلمين، واستطاع بعون ربه أن يُعرّف بالإسلام كل ساكني المدينة، فأتى إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأوْسها وخزرجها قد دخلوا في دين الله أفواجاً إلا قليلاً.
مصعب صناعة الإسلام
كان أترف غلام بمكة بين أبويه فيما بيننا، فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك، فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير عنه تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به، فما يستطيع أن يمشي، فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا(1).
بهذه العبارة، يجسّد الصحابي سعد بن أبي وقاص مدى التباين في حياة مصعب، بين جاهليته وإسلامه، فلقد كان أنعم فتيان قريش، ولم ينعم شاب بالتدليل من أبويه كمثل مصعب، يرتدي أفخر الثياب، ويتعطر بأثمن العطور، وتضع أمه له الطعام عند رأسه.
لكن الإيمان يصنع المعجزات، فيتحول هذا الفتى بين عشية وضحاها، إلى شاب جلِد خشِن، يتحمل شظف العيش بعدما حرمه أهله من النعيم على إثر إسلامه، وأصبحت الدعوة إلى الله شغله الشاغل، والتمكين لدين الإسلام هو همه الأعظم.
السفير
كانت بداية النشاط الدعوي لمصعب في المدينة، عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رفقة اثني عشر رجلًا من أهل يثرب، قد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقههم في الدين، فنزل على أسعد بن زرارة، ونشط في تعريف الناس بالإسلام، فسمي بمقرئ المدينة، وله السبق في الهجرة إليها.
أجرى الله الخير على يدي مصعب سريعًا، ولذلك أسباب عدة، أبرزها إيمانه العميق بما يدعو إليه، فكان مدعاة لصبره وجلده على مشاق الدعوة، وقوة الحُجّة التي نشأت من تسلّحه بالعلم بدين الله، وبراعته في الخطاب الدعوي وإحاطته بالفروق الفردية بين المدعوين ومخاطبة كل امرئ بما يليق به.
لقد كان من فقهه في العمل للإسلام، حرصه على دعوة العناصر المؤثرة، التي يُرجى من إسلامها دخول أتباع هذه الشخصيات في الدين، وليس أدل على ذلك من قصته في دعوة سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وكانا سيّدا قومهما من بني عبد الأشهل.
ومختصر ما رواه أهل السير(2) بهذا الصدد، أن مصعباً كان بصحبة أسعد بن زرارة يستقبل جمعًا من الناس ممن أسلموا، فاغتاظ سعد بن معاذ وهو يرى هذه المشهد، فأرسل صديقه أسيداً بن حضير، فقد كره أن يذهب بنفسه لقرابة أسعد منه، فأقبل أسيد عليهما متشتماً ناهرًا، وبكل هدوء وسكينة فجّر مصعب في نفس الرجل دوافع التفكير العقلاني، فقال له: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمراً قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما تكره، فقال: أنصفت، ثم ركز حربته وجلس إليهما.
فلما حدثه مصعب ألقى الله تعالى في قلب أسيد الإيمان ودخل من فوره في الإسلام، ثم احتال أسيد على سعد بن معاذ ليذهب إلى الرجلين ويسمع من مصعب، الذي سلك معه نفس المسلك الأول، وأظهر احترامه لعقليته وقدرته على التمييز بأن يجلس للاستماع، فإن رضي الأمر قبله، وإن كرهه كفّ عنه ما يكره، وقد كان، فاستمع إلى حجة مصعب، فأعلن على الفور إسلامه، وليس ذلك فحسب، بل خاطب قومه بني عبد الأشهل بأنهم جميعاً حرام عليه حتى يؤمنوا بالله ورسوله، فلم يبق في دار بني عبد الأشهل في ذلك اليوم أحد لم يسلم.
استمر مصعب بن عمير في دعوته أهل المدينة، يغشاهم في بيوتهم ومجالسهم ومنتدياتهم، حتى إنه في خلال عام واحد أسلم معظم أهل المدينة، ولم يبق فيها إلا القليل ممن أسلموا لاحقاً، عاد بعدها إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مع وفد من سبعين من أهل المدينة فيما يعرف ببيعة العقبة الثانية، وبشّر مصعب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخير العظيم الذي عم تلك البقعة.
أهمية الجهد الفردي
إذن، لمصعب بن عمير نصيب وافر من تأسيس دولة الإسلام التي نشرت النور في العالم بأسره، وهو رجل واحد من رجالات الإسلام، وهذا بدوره يؤكد أهمية الجهد الفردي الذي يمكن أن يُحدث فارقاً في مسيرة العمل الإسلامي.
هذا الجهد الذي ينبع من استشعار المسؤولية وينطلق من كون مناط التكليف فردياً، وإدراك المرء أن بإمكانه تشكيل واقعه، ومن ثم فلا يستصغر جهده بحجة أنه فرد، فالتاريخ زاخر بجهود أفراد غيروا مجرى التاريخ، فالإمام أحمد الذي تصدى لبدعة خلق القرآن وقف وحده صامدًا، فنصر الله السُّنة على يديه وهو فرد، وعبدالرحمن الداخل كان فردًا عندما فر من العباسيين إلى بلاد الأندلس، وأنشأ هناك حضارة مزدهرة دامت عدة قرون لا تزال آثارها باقية إلى اليوم.
الذي يستشعر المسؤولية الفردية يتحرك بدافع ذاتي دون انتظار الحلول الجماعية، ويبتكر الحلول الإبداعية، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن «عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلاً من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك، فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين»(3).
لذلك ينبغي على كل المحاضن التربوية والتعليمية أن تركز جهودها على تعزيز الشعور بالمسؤولية الفردية وأهمية الجهد الفردي، الذي يؤتي ثماره ولو بصورة تراكمية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
____________________
(1) سير أعلام النبلاء، الذهبي، (1/ 148).
(2) انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، (1/ 244)، السيرة النبوية، ابن هشام، (1/ 453)، دلائل النبوة، البيهقي، (2/ 438)، وغيرهم.
(3) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، (2/ 363-364).