الأخ الكريم د. يحيى، تحية تقدير لكم والإخوة الكرام في مجلة «المجتمع»، وأخص بالذكر باب «مستشارك» والموضوعات المهمة التي ينشرها النخبة من المهتمين بالأسرة المسلمة، عتابي أنه رغم قيمة ما يُنشر من مشكلات زوجية والمنهجيات العملية للتعامل معها، فإنني أود أن أؤكد أن هناك جوانب أخرى مشرقة يجب عليكم الإشارة إليها، إن طرح النماذج الطيبة للعلاقات الزوجية يبعث الأمل للمقبلين على الزواج أو حتى المتزوجين، ويطلق قدراتهم على التمتع بنعمة توفيق الله تعالى بالحياة في بيت تسوده المودة والرحمة؛ لذا فهل يتسع بابكم الموقر لعرض ملخص لرحلة عمرنا الجميلة أنا وزوجتي؟
نحيا مرحلة زوجية هي من أجمل وأسعد ما مر بنا من رحلة زواجنا، نعم هذه مشاعرنا، ولكن دعني أستعيد ذكريات مشاعرنا، أجد أن لكل مرحلة زوجية مذاقها الخاص والسعادة الكامنة بها، وقد وفقنا الله للتنعم بها، ولكن دعني أوضح لأبنائنا أننا في الدنيا ولسنا في الجنة، وأنا وزوجتي بشر نخطئ، وقد مرت علاقتنا بفترات صعبة، ولكننا صبرنا على بعض، وكل منا بذل لننعم ببعض ويقيننا قول الحق سبحانه: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30).
حبيبتي ورفيقة دربي في بداية السبعينيات من عمرها المبارك، وأنا في منتصفها، تقاعدت من عملي كمدير حسابات، منذ أكثر من 10 سنوات، وصاحب ذلك زواج أصغر أولادنا، وبدأنا مرحلة جديدة من رحلتنا التي أهم ما يميزها هو عدم وجود أي أعباء علينا إلا ما قد نتطوع نحن به تجاه أولادنا أو مجتمعنا، لقد سعدنا جداً بذلك؛ لأنه لأول مرة نملك 24 ساعة يومياً نفعل بها ما نشاء، وجلسنا ورغم كل حبنا لأولادنا وزوجاتهم وأولادهم فإننا لم نتألم لأن البيت قد خلا بنا، بل سعدنا أن تلبس زوجتي ما تشاء دون حرج من ابننا، استعدنا ذكريات جميلة عشناها خلال عدة أسابيع قبل بشرى الحمل وآلامه، والولادة وتربية الأولاد وفرحة تخرجهم وزواجهم، ثم ها نحن نعود لبعض مرة أخرى!
أتعجب من بعض الأزواج عندما يتحدثون عن الملل من حياتهم الزوجية! وكأنه شيء طبيعي، وينسون أن الزواج تشريع العليم الحكيم، وأن الأصل في الزواج الديمومة، إن الملل الزوجي نتيجة طبيعية لعدم التجديد وفقدان الأمل في غد مشرق جميل؛ لذا، فيومنا مزدحم ما بين جلسة ذكر نتدارس فيها كتاب الله تعالى وقبس من نعم الله علينا، وعادة ما يتطرق الحديث لحال المسلمين.
نتعاون معاً في الأعباء المنزلية من شراء احتياجاتنا وإعداد الطعام وتنظيف البيت، طبعاً لا ننسى توصيات الطبيب بالمشي، وذلك من أسعد الأوقات؛ لأننا عادة ما نتذكر فيها ذكرياتنا، وما مر بنا من مواقف حرجة أو مرحة، وقد انتظمنا في برنامج لتطوير مستوانا باللغة الإنجليزية، كما أن لكل منا هوايته الخاصة؛ فزوجتي تسعد بقراءة الثروة الطيبة التي تركها الكاتب القدير عبدالوهاب مطاوع «بريد الأهرام» رحمه الله، أما أنا فيشدني ما يكتشفه العلم من بعض قدرات العقل البشري، ونتبادل المعرفة، ولله الحمد لنا نشاط بمسجد الحي ما بين تحفيظ القرآن وخاطرة، علاقات اجتماعية ما بين أسر من جيلنا أو من جيل أولادنا.
كنا ندخر ونستثمر في بعض، بمعنى أن كلاً منا أيقن واقتنع أن زوجه يعلم خطوطه الحمراء فلن يقترب منها، وأنه عليه أن يقبله ويحمد الله تعالى على ما به من صفات يحبها ويصبر على ما به من خصال لا تتوافق معه؛ «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقاً رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ» (صحيح مسلم، 1469).
كنا نتصارح دون خجل عما لا يرضينا في أنفسنا، ونفكر معاً كيف نحسن ما لا يرضينا من أنفسنا، كان كل منا يحافظ على زوجه للحظات الضعف والاحتياج خاصة في شيبتنا، أود أن أشير إلى معنى مهم جداً؛ وهو قد يصاب الزوج بمرض يحتاج معه لمن يساعده على الاستحمام أو تغيير ملابسه، ومن الطبيعي أن يقوم بذلك زوجه، لكن شتان بأن يقوم زوجك بذلك بحب وامتنان لعطائك الطيب معه، وأن يقوم بذلك لأن أخلاقه تفرض عليه ذلك، ولكن تاريخك معه يقول إنك لا تستحق.
إن العلاقات الزوجية ليست كالحساب البنكي يجب مراجعة الرصيد بعد كل موقف! ولكنها بذل في الخير أسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ «خَيرُكم خَيرُكم لأهلِه، وأنا خَيرُكم لأهلي» (الإفصاح عن أحاديث النكاح، 184، صحيح)، فالخيرية قد تكون بالعطاء المادي؛ (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (الطلاق: 7)، أو العطاء المعنوي وهو الأهم والأكثر تأثيراً، إن تبادل العطاء المعنوي من عواطف جياشة وتقدير وامتنان وتمتع هو من الخيرية التي حرصنا على أن نتنافس على من يفوز بها.
دعني أعود بك إلى نقطة التحول في حياتي الزوجية، بل في كل حياتي بصفة عامة، يرجع ذلك إلى ما يقرب من 5 عقود، فقد نظرت إلى والديّ وأقاربنا وأصدقائنا ومن هم من جيلهم ووجدت أن ما حصلوا عليه من شهادات علمية أو مهنية مجرد لقب نُسي مع التقاعد، وما تولوه من مناصب ووظائف كانت محل تقدير أضحت مجرد ذكرى، وما أفاء الله به عليهم من مال هو مجرد رقم في بنك، حتى أولادهم انشغل كل منهم بحياته مهما كان باراً بوالديه، فمن بقي معهم ولهم؟ بقي معهم من صبر على زوجه وثابر معه على بناء منظومة من العلاقات من محبة في الله وعش يهنأ كل منهما بزوجه يمتعه ويتمتع به، بقي معهم من غض الطرف وتغافل وقبل زوجه كما هو لذاته منحة ونعمة من الله وتناصحا على تحسين سلوكهما دون انتقاص أو تسفيه.
كان ذلك بعد أكثر من عام على زواجنا، وقد من وهبنا الله ابننا الأول، وقد مر العام بكثير من المشكلات والتجاوزات، للأسف لم يكن لدينا المعرفة التي تساعدنا على كيفية التفاهم والتعامل بيننا، وأن التعامل كزوج مسؤول عن أسرة مختلف تماماً عن ابن ضمن أسرة، فمررنا بفترات عصيبة، ولولا أن وهبنا الله تعالى ابننا لكان الطلاق هو الحل بهذه الرؤية الجاهلة، شاء الله عز وجل أن أتقدم لشغل وظيفة أفضل، وقدمت ما يفيد كفاءتي لتولي الوظيفة من شهادات علمية ومهنية ودورات، وتم اختباري عدة اختبارات، ثم عينت تحت التدريب، ووجدتني أعقد مقارنة بين قيمة وأهمية مسؤوليتي الأسرية (زوجة وطفل) ومسؤوليتي المهنية ومدى معلوماتي عن كل مسؤولية.
النتيجة صادمة! فشل سببه الجهل، هرعت إلى زوجتي وصارحتها بما وصلت إليه، هي جزاها الله خيراً اقتنعت واعتذرنا لأنفسنا، وقررنا التعلم، تعاهدنا على أن نطبق ما نتعلمه بدءاً من الحقوق والواجبات الشرعية -ركز كل منا على ما عليه من واجبات وحقوق لزوجه- حتى وسائل التواصل الزوجي بكل معانيه، وإدارة الخلافات الزوجية وتربية الأولاد وكل ما يتعلق بنجاحنا كأزواج، توافقنا أنه لا يمكن لنا أن نستمر على هذه الحال، وكل منا يحب الآخر ويرغب في الاستمرار، إذاً ما الحل؟ واتفقنا والتزمنا بما يلي:
قيمنا: الاحترام والتقدير، وحسن الظن، فأي تصرف مهما كان مؤلماً أو مكلفاً، هو بقصد طيب ولا يتعمده أي منا؛ وبالتالي اختفى من قاموس حوارنا: «أن عارف إن قصدك..».
الشفافية: دون الإخلال بقيمة ما قد يؤتمن أي منا على أسرار أهله أو أصدقائه.
غايتنا: بذل كل جهدنا لأن يكون أولادنا خيراً منا، وأن يكونوا قيمة مضافة للأمة، وأن الاستثمار في الأولاد أولى من الاستثمار لهم.
رسالتنا: كل منا عون لزوجه لمرضاة الله تعالى، من ذلك مثلاً: حرص كل منا على أن يكون زوجه باراً بوالديه وصلة رحمه، ويحثه ويذكره بذلك، فأغلقنا باباً من أشر أبواب الشيطان في علاقة كل منا بأهل زوجه، كذلك التخلي عن بعض الكماليات نظير الصدقة.
كيفية التعامل مع المشكلات التي واجهتنا: هيَّأنا أنفسنا على أن نتقبل أخطاءنا، ولكن حاولنا تجنب ما قد يؤدي إلى أي خلاف بيننا، فكنا نناقش بموضوعية وبالتفصيل ودون أي مواراة مسؤوليتنا والدور الذي يمكن أن يقوم به كل منا في أدائها، الأهم كيف يمكن أن يساعد كل منا زوجه في أداء مسؤولياته، فمثلاً الرضاعة الصحية تتطلب انتظاماً في الوقت، فكنا ننظم أوقاتنا بحيث تكون زوجتي متفرغة بالكامل للرضاعة وتستغل الوقت في رقية الرضيع والذِّكْر، وأنا المسؤول عن رعاية باقي الأولاد خلال فترة الرضاعة حتى لا يؤثر على هدوئها فيضطرب الرضيع.
عند حدوث المشكلة يكون همنا هو كيف نحلها، دون لوم أو تأنيب، واليقين أنها تمت بعذر مقبول دائماً مثل السهو أو عدم التقدير المناسب للحل أو المفاجأة، ثم كيفية الاستفادة منها، بمعنى: لماذا حدثت المشكلة؟ وماذا على كل منا أن يفعل حتى لا تتكرر؟ لذا فكانت المشكلات تزيدنا تفاهماً.
والإحساس بالمسؤولية لتوفير محضن تربوي ينعم فيه الأولاد بالأمان النفسي ونموذج عملي قيمي وليس مجرد تلقين.
ورغم كل ما اكتسبناه من معارف وخبرات وتفاهمات، فإننا بشر، وقد يوسوس الشيطان لأي منا أو كلانا، فعادة ما ينسحب الآخر ويلجأ إلى الله بالدعاء، فيسكت الطرف الثائر، ونلجأ إلى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لعلاج الغضب؛ «اسْتَبَّ رَجُلَانِ عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ أَحَدُهُما يَغْضَبُ وَيَحْمَرُّ وَجْهُهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لو قالَهَا لَذَهَبَ ذَا عنْه: أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ..»، (صحيح مسلم، 2610)، بالإضافة إلى الوضوء والصلاة. نتذكر أيضاً: «.. وخَيْرُهُما الذي يَبْدَأُ بالسَّلامِ» (صحيح البخاري، 6077).
أنزل لأصلي بالمسجد فأعود بوجه غير الذي غادرت به، لأجد زوجتي وقد ذهب ما بها من كدر وقد أعدت لنا الشاي بالنعناع الذي ننعم بشربه معاً، متناسياً الموقف وقد يعتذر أحدنا، المهم أنه لا وقت للعتاب ونحن ثائرون، ينتهي الموضع بذلك وننساه لأنه حدث عارض، أو بعد فترة نستعيده للعبرة والاستفادة حتى لا يتكرر.
كما أود أن أؤكد لأولادنا أن المودة والرحمة ليست كوباً من عصير الليمون المثلج سهل الإعداد لذيذ التناول، ولكنها تحتاج أولاً إلى إخلاص وصبر ومثابرة وإصرار على تحصيل المعرفة في كل ما يخص العلاقات الزوجية، وهذا هو المهم، عمل برنامج يتضمن أنشطة يومية وأسبوعية وشهرية تتناسب والمرحلة الزوجية التي يمر بها الزوجان وقدراتهما.
جزى الله أخي الكريم على هذه النفحة التفاؤلية الطيبة، وإن شاء الله تعالى نعرض ما يصلنا من تجارب وخبرات زوجية تكون منارات على طريق المودة والحمة.
وقد تضمنت الرسالة العديد من الخبرات القيمة، ونظراً لضيق المساحة، فسأتناول، في العدد القادم، إن شاء الله، بالتعليق الدروس المستفادة، والله المستعان.
_____________________________
y3thman1@hotmail.com