على طريقة الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981م حين سحب تعيينه للبابا شنودة رئيساً للطائفة الأرثوذكسية عام 1981م لتمرده على الدولة، أصدر رئيس الجمهورية العراقية عبداللطيف رشيد قراراً يوم 17 يوليو 2023م بسحب المرسوم الجمهوري الخاص بتعيين لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق والعالم؛ ما يعني عدم اعتراف العراق به.
وتعد الكنيسة الكلدانية من أكبر الكنائس في العراق، وتشير تقديرات إلى أن عدد المسيحيين اليوم لا يتخطى 400 ألف نسمة، من نحو مليون ونصف مليون قبل عقدين، هاجروا بسبب الحروب والنزاعات، ويعيش معظمهم في سهل نينوى وإقليم كردستان شمالي العراق.
قرار سحب تعيين ساكو جاء في ظل توتر داخلي بين المسيحيين أنفسهم، وبالتحديد بين رئاسة الكنيسة وفصيل «بابليون» المسلح، وهو مليشيا مسيحية تعمل ضمن قوات «الحشد الشعبي» الموالية لإيران.
وكذلك إصدار القضاء العراقي أمراً، في 14 يوليو 2023م، باستدعاء البطريرك للتحقيق معه على خلفية شكوى تقدم بها زعيم مسيحي لمليشيا «الحشد الشعبي» بابليون ريان الكلداني.
و«كتائب بابليون» حركة مسيحية، تعد أحد فصائل «الحشد الشعبي» في العراق، ويقودها ريان الكلداني، وتأسست عام 2014م لدعم الشيعة في حربهم على تنظيم «الدولة» بعد سيطرته على الموصل وسهل نينوى.
وقد أعلنت البطريركية الكلدانية في العراق رفضها قرار سحب المرسوم الجمهوري الخاص بتعيين بطريرك الكنيسة.
وأشارت البطريركية إلى أن هذا القرار غير مسبوق في تاريخ العراق، ومنذ الخلافة العباسية كان البطريرك يُمنح براءة رسمية، واستمر الأمر في العهد العثماني إذ كان البطريرك يُمنح فرماناً ولنا نسخة منه تسمى «الطغراء»، وهكذا في الزمن الملكي والجمهورية.
ولفتت إلى أن هذه المراسيم معمول بها في الدول العربية التي فيها طوائف مسيحية مثل الأردن ومصر وسورية ولبنان، ولا نعرف ما الأسباب وراء هذا القرار الذي نعتبره قراراً سياسياً كيدياً، وهو ضد المقام البطريركي العريق في العراق والعالم، بحسب تعبير البطريركية.
وقالت السفارة البابوية، في بيان، في 17 يوليو 2023م: تأسف السفارة الرسولية في العراق لسوء الفهم والتعامل غير اللائق فيما يتعلق بدور غبطة البطريرك مار لويس ساكو كوصي على ممتلكات الكنيسة الكلدانية، بالإضافة إلى بعض التقارير المنحازة والمضللة حول هذه القضية، التي غالباً ما تتجاهلها كشخصية دينية تحظى بتقدير كبير.
ما وراء قرار الإقالة
رئاسة الجمهورية العراقية بررت سحب مرسوم تعيين ساكو بأنه جاء لتصحيح وضع دستوري؛ إذ صدر المرسوم المذكور دون سند دستوري أو قانوني.
وأضافت أنه سبق وأن صدر مرسومان جمهوريان لرمزين دينيين في نفس الفترة، ولم يتم تجديدهما أيضاً لعدم وجود سند دستوري أساساً لصدورهما.
لكن المصادر العراقية أكدت أن إقالة ساكو جاءت بضغوط من مليشيات «الحشد الشعبي» العراقية بعد تصريحات ومواقف للبطريرك الكاثوليكي لا تتوافق مع سياسات التيار الشيعي، ورفض البطريرك أن تتولى هذه المليشيات المسيحية تمثيل الكنيسة الكاثوليكية، بينما هي متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان وتعذيب وقتل عراقيين.
وتقول مصادر عراقية: إن سحب اعتراف بغداد بـ«بطريرك الكنسية الكلدانية» الكاردينال ساكو يرجع لخلافات بينه وبين المليشيات المسيحية التابعة لـ«الحشد الشعبي»، وإنه نقل مقر إقامته من بغداد إلى أربيل في كردستان العراق، وبرره بأنه بسبب الضغوط والتهديدات له، واحتجاجاً على سحب الرئاسة مرسوم تعيينه.
ففي أعقاب وصوله إلى أربيل في كردستان قادماً من بغداد، في 22 يوليو الجاري، قال البطريرك ساكو: إن الكنيسة مستهدفة، وتواجه أنواعاً مختلفة من الإهانة والعنف.
وانتقد قرار رئيس العراق بعدم الاعتراف به بقوله: هل يمكن لرئيس الجمهورية أن يصدر بياناً أو مرسوماً جمهورياً ضد المرجع الشيعي الأعلى، أو المجمع الفقهي السُّني، أو غيرهما؟!
الخلاف المسيحي الداخلي
على مدى أشهر، اشتد الخلاف بين البطريرك ساكو وقائد المليشيات المسيحية (ميليشيا بابليون) ريان الكلداني، الخاضع لعقوبات أمريكية منذ عام 2019م، وزعيم حركة «بابليون» المسيحية الممثلة في البرلمان والحكومة والمنضوية في «الحشد الشعبي».
وقالت مصادر عراقية: إن الخلافات بين الفريقين المسيحيين ترجع لرفض الكنيسة أن يتحدث الفيصل المسيحي في «الحشد الشعبي» كممثل لمسيحيي العراق، أو أن يتحكم في إدارة أملاك وأوقاف الكنيسة، التي يقول البطريرك: إنه وحده المتصرف فيها رغم عدم الاعتراف الرسمي به.
حيث يتبادل ساكو والكلداني اتهامات بمحاولة الاستيلاء على مقدرات المسيحيين في البلاد التي شهدت عقوداً من النزاعات وتعاني من الفساد، وفقاً لوكالة «فرانس برس».
وأثار زعيم المليشيات المسيحية ريان الجدل بتصريحاته بصورة مستمرة، حيث تبرأت الكنيسة الكلدانية في العراق عدة مرات من التصريحات الطائفية التي أطلقها ريان.
وقال القس بسمان جورج، مستشار رئيس الكنيسة الكلدانية، لموقع «الحرة» الأمريكي، في 19 يوليو 2023م: إن بين الكنيسة ومليشيا «بابليون» اختلافاً كبيراً، مضيفاً: لا يرضى الكاردينال أن يكون لنا فصيل عسكري خاص بالمسيحيين، وهو يدعو المسيحيين إلى الانخراط في قوى الدولة الرسمية، فالعراق وطن الجميع والأجهزة الأمنية متاحة للجميع.
ويتهم القس جورج مليشيا «بابليون» بأنها تسعى إلى الاستحواذ على كل ما يمثل المسيحيين، من مناصب في العراق، فضلاً عن أطماعه للسيطرة على ديوان الوقف المسيحي.
ويؤكد أن مليشيا «بابليون» هم من ألد أعداء المسيحيين بتعدياتهم واغتصابهم لحقوق المسيحيين، كما تتدخل في شؤون الكنيسة، وتتهم باطلاً الكنيسة بالتدخل في العمل السياسي.
ويقول القس بسمان: إن زعيم هذه المليشيا اتهم الكاردينال عدة تهم ولفق عليه الأكاذيب كما قام بإهانته، وزعم أن رئاسة الجمهورية راضية وعلى اتفاق مع زعيم المليشيا بالتعدي على الكاردينال ساكو.
ولأن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر فصيل «بابليون» المسيحي العراقي جماعة إرهابية وتفرض عقوبات على قائده، فقد وقفت بجانب الكنيسة، وقال المتحدث الأمريكي: إن القرار الرئاسي العراقي ضربة للحرية الدينية.
وأعلنت البطريركية الكلدانية في العراق رفضها قرار سحب المرسوم الجمهوري الخاص بتعيين بطريرك الكنيسة.
وقالت السفارة البابوية، في بيان، في 17 يوليو 2023م: تأسف السفارة الرسولية في العراق لسوء الفهم والتعامل غير اللائق فيما يتعلق بدور غبطة البطريرك مار لويس ساكو كوصي على ممتلكات الكنيسة الكلدانية، بالإضافة إلى بعض التقارير المنحازة والمضللة حول هذه القضية، التي غالباً ما تتجاهلها كشخصية دينية تحظى بتقدير كبير.
وأشارت السفارة إلى لقاء رئيس الجمهورية مع القائم بأعمال سفارة الفاتيكان في بغداد تشارلز لاوانغا سونا للاتفاق على أن تظل إدارة ممتلكات الكنيسة خاضعة لإدارتها أمام المحاكم العراقية والمكاتب الحكومية، لا للمليشيات المسيحية.
من هو زعيم مليشيا «بابليون»؟
أسس ريان الكلداني مليشيا «بابليون» عام 2014م بهدف معلن؛ هو الدفاع عن القرى والبلدات المسيحية في نينوى ضد تنظيم «داعش» الذي كان في ذلك الوقت يجتاح المحافظة ومحافظات عراقية أخرى.
وهو من زعماء المليشيات الشباب، والوحيد المسيحي الديانة، لكن مجموعته انخرطت سريعاً بخروق لحقوق الإنسان، وفقاً لوزارة الخزانة الأمريكية.
ويخضع الكلداني إلى عقوبات أمريكية ضمن قانون «ماجنتسكي» منذ عام 2019م؛ لقيامه بـ«انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان»، وفقاً لبيان وزارة الخزانة الأمريكية.
وبحسب الوزارة، قام «اللواء 50» الموالي للكلداني بنهب المنازل بشكل منهجي في مدن يقول: إنه حررها من حكم تنظيم «الدولة»، واستولى على أراض زراعية وباعها بشكل غير قانوني، واتهم السكان المحليون الجماعة بتخويف النساء وابتزازهن ومضايقتهن.
كما أنه كان مقرباً من أبو مهدي المهندس، رئيس «الحشد الشعبي» العراقي الذي قتل بضربة أمريكية قبل أعوام، ويحتفظ بعلاقات جيدة مع قادة «الحشد» الآخرين من الشيعة.
ولبابليون 5 نواب، هم كل الكوتا المسيحية في البرلمان العراقي.
لكن تقريراً لـ«معهد واشنطن» ذكر أنه رغم الواجهة المسيحية التي قدمتها عائلة الكلداني وبعض قادة الوحدات، فإن مليشيا «بابليون» ليست لواءً مسيحيًا كالذي تصور نفسها عليه، ومعظم عناصرها من عناصر «الحشد».
وأضاف أنه باستخدام الدعم المالي من إيران وحملة انتخابية تركزت على شراء الأصوات، تمكن الفرع السياسي لمليشيا «بابليون»، من مضاعفة تمثيله البرلماني في انتخابات عام 2021م ويسيطر الآن على أربعة من المقاعد الخمسة المخصصة للمسيحيين.
وأوضح أن الكراهية المسيحية في سهل نينوى تجاه مليشيا «بابليون» تتزايد منذ عام 2017م، بعد أن ثبت أن أفراد المليشيا قد نهبوا القطع الأثرية المسيحية من دير مار بهنام.
علماء المسلمين.. و«بابليون»
كان لافتاً أن هيئة علماء المسلمين في العراق، التي تعبر عن التيار السُّني، وقفت بجانب الكنيسة، وأعلنت رفضها قرار سحب المرسوم الجمهوري الخاص بالبطريرك لويس روفائيل ساكو، واعتبرته تدخّلاً سافراً بإدارة الكنيسة الكلدانية من قبل السلطات الحكومية ومليشياتها.
وقالت الهيئة: المتعارف عليه وفق سياقات حرية الأديان أن البطريرك تختاره الكنائس بمحض إرادتها وتقوم الرئاسات في الدول المعنية بالمصادقة على هذا الاختيار، وقد درج المسلمون منذ قرون على احترام الأديان ومراعاة حقها في اختيار ممثليها، وعدم التدخل بشؤونها الداخلية.
وذكرت أن قرار الرئاسة بسحب تعيين البطريرك جاء بعد الخلافات بين البطريرك لويس ساكو من جهة، وريان الكلداني، زعيم مليشيا «بابليون» المسيحي، المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في مناطق سهل نينوى، وسرقة أملاك المسيحيين وتشريدهم.
وسبق أن كشف قسم الإعلام في هيئة علماء المسلمين عن تواصل اعتداءات مليشيا بابليون وانتهاكاتها لحقوق الإنسان في مناطق سهل نينوى، ومحاولتها السيطرة على قضاء الحمدانية.
ويشير موقف هيئة علماء المسلمين لرفضها سعي «الحشد الشعبي» الشيعي الموالي لإيران للسيطرة على الطوائف الدينية في العراق المسيحية والإسلامية السُّنية أيضاً.
وسبق أن اتهمت هيئة علماء المسلمين في العراق، في 22 مارس 2023م، مليشيا كتائب «بابليون» أو ما يعرف بـ«الـلواء 50» المنضوي في «الحشد الشعبي» بانتهاكات لحقوق الإنسان في مناطق سهل نينوى بمحافظة نينوى، بعدما أقدمت مؤخرًا على محاولة السيطرة على قضاء الحمدانية، وطرد الشرطة المحلية منه.
وقالت: إن أهالي بلدة قره قوش مركز قضاء الحمدانية يتقدمهم المطران يونان حنو ووجهاء سهل نينوى قاموا بالتصدي لهذه المحاولة حيث تجمع سكان القضاء وتظاهروا ضد قافلة كتائب «بابليون» المتوجهة نحو البلدة وطردوها، وسط تصاعد حالة الغضب الشديد تجاه هذه المليشيا المتورطة بعمليات اعتداء على المواطنين.
وقالت «علماء المسلمين»: إن هذه المليشيات تسيطر على ما تسمى وحدات حماية سهل نينوى، وتسخرها لأهدافها الخاصة، وافتعال الأزمات مع السكان، ولا سيما مع رجال الدين المسيحي في قضاء الحمدانية، التي كانت آخرها حادثة الاعتداء على بطريرك (الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية) الكاردينال (لويس روفائيل ساكو).
وحملت «علماء المسلمين» مسؤولية استمرار هذه الجرائم والانتهاكات ضد أبناء سهل نينوى من المسيحيين لحكومة العراق الحالية وأحزابها ومليشياتها التي تتستر على جرائم مليشيا كتائب «بابليون» وتدعمها.