المكان
يشمل المكان مساحة واسعة ممتدة من جامعة القاهرة إلى جامعة إن بروفانس في باريس، وتبدأ علاقته بالشخصية الرئيسة من مكتب رئيس قسم التاريخ في كلية الآداب جامعة القاهرة، وتسافر إلى الجهات الأربع، وتنتهي إليه؛ فقد صار التلميذ أستاذاً يشار إليه بالبنان، ويسافر إلى المؤتمرات الدولية واللقاءات العلمية، ويرقى حتى يصير رئيساً للقسم ويعتلي كرسي المكتب الذي بدأ منه أحلامه، وهو غرفة معتمة كان يجلس فيها أستاذه ومرشده، رئيس قسم التاريخ، ولعل في وصفه بالغرفة المعتمة يشير إلى الغموض أو عدم الوضوح الذي يتوازى مع مهنة المؤرخ الباحث عن الحقيقة في أضابير التاريخ.
ثم هناك بيت الأسرة في شارع جرجس بولس بحي شبرا، بناه الجد القادم من إحدى قرى المنوفية أيام ثورة 1919م، و«الأتوبيس» أو الحافلة وسيلة الانتقال منه إلى أرجاء القاهرة (أتوبيس 78 من شارع الترعة البولاقية (ص 11))، وخاصة إلى محطة الدمرداش المصدر الأساس لثقافة التلميذ العقدية، حيث مقر البطريركية في العباسية (الأنبا رويس)، وبهو الكنيسة المرقسية بكلوت بك، مقر البطريركية منذ القرن التاسع عشر.
صداقة مع الفرنسيين
ينتقل التلميذ إلى شاتو دي فينسان (باريس)، في بعثة للدراسة حيث أرشيف الحربية الفرنسية الذي يضم أوراق الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801م)، ويتيح المكان هنا فرصة للتلميذ كي يتعرف على شاب فرنسي «تو شرار» ومصادقته، ويقوده إلى شخصية مؤثرة في حياته لاحقاً، وهو مسيو آندريه ريمون، مؤلف كتاب تاريخ القاهرة العثمانية، ترجمة زهير الشايب (ص 33)، وله كتاب آخر يعد الكتاب العمدة عن الحرفيين والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر (ص 34)، وريمون مدير معهد دراسات العالم العربي والإسلامي بإكس إن بروفانس، أحد أهم المراكز البحثية في فرنسا، ويزور القاهرة من آن لآخر وينزل ضيفاً على المعهد الفرنسي بالقاهرة، وأظن أن المكان كان مؤثراً في تشكيل رؤية التلميذ/ الراوي للحملة الفرنسية وخيانة يعقوب ومن معه، وجعلت من الاحتلال والخيانة مسألة خلافية، وليست خلقية ووطنية وعقدية!
الزمان
ينطلق الزمان التاريخي من أيامنا الراهنة (الثمانينيات من القرن العشرين) إلى زمن الحملة الفرنسية، حيث ينظر التلميذ/الراوي الذي يعيش في الثمانينيات من القرن العشرين، إلى الحملة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر.
الزمن التاريخي يشير من خلال كتب التاريخ إلى الحملة الفرنسية وممارساتها الوحشية الدموية، وخيانة بعض المتعصّبين النصارى ومساعدتهم المحتل الغازي الدموي، وسعيهم لنزع الرابطة الإسلامية التي تربط مصر بأشقائها، بدعوى الاستقلال الوطني، أو تحت ذريعة الظلم الذي لحق بالطائفة!
ولكن الزمن الروائي الذي تمثله رؤية الراوي المعاصر تبدو مغايرة، ويتجلى فيها تأثير الزمن الراهن على الثقافة والفكر، حيث نجح الفرنسيون في استقطاب نخبة كبيرة، تخضع لثقافتها، وتردّد مقولاتها، وخاصة ما يتعلق بوحشيتها الدموية، وتجنيد الخونة لخدمتها، فرأينا الشخصية الأساسية للتلميذ/ الراوي، يتسامح مع الحملة الفرنسة، ويتعامل معها كأنها مجرد حدث عابر، أو زيارة عادية قام بها الجيش الفرنسي إلى أرض مصر ليبشر بالنهضة والتقدم، كما قال آخرون في بعض الأعمال الفنية المسرحية أو المصورة، وتجاهل القوم أنه قتل سُبْع الشعب المصري (ثلاثمائة ألف، من مجموع الشعب المصري آنئذ الذي بلغ مليونين ومائة ألف نسمة!).
التراكم الزمني منذ الحملة الفرنسية حتى اليوم غيّر كثيراً من المفاهيم الصلبة عن الوطنية وحماية الأوطان، والاعتزاز بالثقافة القومية، وحوّلها إلى مفاهيم سائلة تقبل بالاحتلال الأجنبي، وترضى بثقافته الدموية، وتتسامح مع الولاء له وخيانة الوطن!
الشخصيات
تقابلنا في الروايات شخصيات عديدة ذات علاقة بالشخصية الأساسية، وهي شخصيات حقيقية في معظمها وتظهر بأسمائها المعروفة: البابا القديس كيرلس السادس، الأنبا بيشوي، الأنبا بسنتي سكرتير البابا، والأستاذ ريمون، والمعلم يعقوب، والمعلم جرجس الجوهري، والجنرال ديسيه ولاسكاريس، وإسماعيل الخشاب، وروفائيل نخلة، وضياء القللي، وعماد أبو غازي، وماجد كامل، وبعضها يظهر من خلال وظيفته مثل الأنبا شنودة، والخادم فايز، والتلميذ/ الراوي وفؤاد تلميذ الأنبا بسنتي.
الراوي/ التلميذ
أكثر الشخصيات حضوراً في النص هي شخصية الراوي الذي يسمي نفسه بالتلميذ، وتأتي بقية الشخصيات تنويعات على سرده لرحلة حياته وطموحه ليكون باحثاً يكشف تاريخ الأقباط ويواجه ما يسميه التطرف المستجد، وهي تسمية مجازية للتعبير عن الإسلام، وإن كان يخلطها هو وغيره بالإرهاب والعنف.
والتلميذ مدرس مساعد بقسم التاريخ في كلية الآداب بالقاهرة، يبغي تسجيل رسالة دكتوراة عن التطرف المستجد، ويصطدم بما يراه سلبيات في التعليم الجامعي، من خلال «السمينار» (حلقة البحث) الذي يعقده القسم لمناقشة طلاب الماجستير والدكتوراة في موضوعاتهم التي يتقدمون بها للحصول على الدرجة العلمية، فيشير إلى محاولة أعضاء القسم (تشريح!) الطالب المتقدم بموضوع بحث، والاستخفاف به، وأحياناً سؤاله عن النتائج قبل أن يبدأ بحثه وجمع مادته (ص 8)، ثم هناك الأستاذ المنتفخ دائماً، وأعضاء القسم الذين يرون الطالب مغروراً حين يبدي أنه سيطلع على الأرشيف، والأستاذ الذي يقترح العمل على تاريخ اليهود لأنه أسهل وأحسن، ولكن التلميذ يرفض ترك تاريخ الأقباط ليدرس تاريخ اليهود (ص 9).
المسلم لا يضحك!
ويقوم فؤاد تلميذ الأنبا بسنتي بمهمة تقديم التلميذ/ الراوي لرئيس الكنيسة (البابا)، الذي يلتقي به ويتبسط معه، ويذكّره أنه خريج قسم التاريخ في الكلية ذاتها في الأربعينيات، فهو من كبار الحكائين (ص 16)، والبابا في نظر التلميذ أكثر إنسانية ورحابة حين يضحك ويهتف بمن حوله وكأنه يلومهم على عدم الضحك؛ «نحن معشر الرهبان إذا لم نضحك نموت» (ص 16) -المسلم في كثير الروايات جهم عبوس لا يعرف الضحك طريقاً إلى سحنته- ويبدو البابا في نظر التلميذ الشاب أكثر تفهماً من أساتذة القسم الذين يملكون سطوة الكهنوت وسلطان الرفض لكل ما هو جديد، ويتملق التلميذ البابا فيراه مثله، ابن حي شبرا العريق المتسامح، وخريج القسم الذي درس فيه، ويدرك تأثير هذه الكلمات على البابا (الجامعة الأم، وشبرا هي مصر الصغرى)؛ «لذلك أنت تستحق أن تكون أول مسلم يدخل الأرشيف»! (ص 17)، ودائماً يرى البابا في صورة رئيس الدولة؛ «الفرحة عارمة في قلوب الشعب القبطي بعد خروج البابا من الدير عقب إنهاء الإقامة الجبرية في سبتمبر 1981 المشؤوم أو خريف الغضب كما أطلق عليه هيكل» (ص 11)، «المكان يشتعل بالهتاف بحياة البابا»، «ولا موكب رئيس الجمهورية، يرد شاب آخر: طبعاً أجدع من موكب الرئيس، ويؤمّن التلميذ على هذا الكلام» (ص 12).
نصيحة الأستاذ
ويحصل التلميذ مصادفة على منحة لحساب معهد إكس إن بروفانس بمعرفة الأستاذ ريمون، فدائماً المصادفات تغير مجرى حياته! كما يقول الراوي، وبالمصادفة يجد في الفهرس بيان (كذا!) عن رسالة بعثها الجنرال يعقوب في رثاء الجنرال ديسيه، يا لسخرية القدر! ثم يحصل التلميذ على الدكتوراة، فلماذا لا يتجاوز نصيحة أستاذه بالابتعاد عن الموضوع الخلافي، ويبدأ المغامرة؟ (ص 35)، ويلتقي التلميذ في المكتبة الوطنية الفرنسية بفتاة لبنانية اسمها «أمنية» وتنشأ بينهما علاقة عاطفية حميمة (ص 37).
ولكنها لا تشغله عن المغامرة وراء الكشف عن يعقوب؛ «لا بد أن يبحث حول موضوع مشروع يعقوب لاستقلال مصر عام 1801 (!) هذا المشروع الذي أشار إليه -بل وأشاد به- جورج دوان وشفيق غربال ولويس عوض»! (ص 49).
الراوي/ التلميذ يحب الممثلة الفرنسية من أصل جزائري، كما يحب داليدا، ويعشق (الميكس) ونادية لطفي، ويحب لقاء الشرق بالغرب. (ص 55).
ويدعي التلميذ أن شبح يعقوب يطارده حتى في لحظات الوصال مع حبيبته اللبنانية، وعليه أن يتوقف عند هذا الحد ليتقدم للترقية إلى درجة الأستاذية، سيكتشف بعد ذلك أنه ليس بالعلم وحده يحيا الأستاذ الجامعي، وأن البقاء للأضعف، وليس للأقوى علمياً، وأن الشللية تسربت إلى محراب الجامعة، (ص 63)، ويؤكد تغييب الدور البحثي والثقافي للجامعة، وتحويلها إلى مدرسة ثانوية عليا! (ص 64)، وكان عليه أن يختار، وتذكر الدعاء المسيحي: «ربي لا تضعني في تجربة» (ص 64)، وجاءه الفرج من أستاذه أندريه ريمون ليخبره أنه عثر على جزء مفقود من محاضر ديوان الحملة الفرنسية (ص 65)، ولأن التلميذ الراوي مشغول بالتقرب إلى الكنيسة، فإنه ينتقد رسالة لباحث عن الأجانب في عهد محمد علي ويتساءل: لماذا لم يطرح إشكالية معينة مثل قبول الآخر، أو بدايات المجتمع الكوزموبوليتاني في مصر؟ (ص 85).
نفي الخيانة!
إن الراوي مشغول بغسل سمعة يعقوب المشينة، فقد نفى التلميذ مسألة الخيانة بالقطع عن يعقوب، وراح يشرح أن هناك فرقاً بين التعاون مع المحتل، بحكم الحاجة وضرورة تصريف شؤون الحياة اليومية، ومسألة الانخراط مع المحتل، وأظهر التلميذ امتعاضه من مسألة تفضيل يعقوب ترك بلده والرحيل مع الجيش الفرنسي إلى فرنسا، وأنه في هذا الشأن يبجل المعلم جرجس الجوهري سليل عائلة الجوهري القبطية وعميدها إبراهيم الجوهري الخائن الذي أفاد من العفو العثماني (ص، 112)؛ «هنا ذكره أبونا بواقعة إعدام العثمانيين للمعلمين أبو طاقية وملطي، وهل يبقى يعقوب ليكون جزاؤه قطع الرقاب؟!» (ص 113) (لم يقل الراوي: إنهما كانا من الخونة الذين قاتلوا الشعب المصري مع المحتل الفرنسي، ولم يذكّره بذبح الفرنسيين لآلاف المصريين الأبرياء!).
دسيسة عثمانية!
صدق أبونا على رواية القتل بالسم (يقصد موت يعقوب على ظهر السفينة التي حملته مع الخونة الآخرين وجنود الاحتلال إلى فرنسا)، وأنه قتل بدسيسة عثمانية، لم يتقبل التلميذ هذا الطرح، ورأى أنه قتل بالسم بأيد فرنسية انتقاماً لاتصال لاسكاريس ويعقوب بالإنجليز، وهما على ظهر السفينة، فلم يغفر الفرنسيون هذا الأمر، أنهى أبونا الحديث قائلاً: على أي حال لم يكن خائناً لوطنه(؟).
رد التلميذ سريعاً: ولكني أميل إلى نموذج جرجس الجوهري (وهو خائن أيضاً وأفاد من العفو العثماني فبقي في البلاد كما سبقت الإشارة) (ص، 113).
هكذا يبدو التلميذ متيماً بحب الخائن وطائفته، ومغاضباً للتطرف المستجد الذي يكني به عن الإسلام والمسلمين!