حاز النبي ﷺ الكمال البشري؛ فإذا بحثت في أي جانب من جوانبه رأيت العظمة، ووقفت على مواطن الكمال.
ففي الرئاسة والسياسة تخرج من تحت يده منشئو دولة الإسلام العظمى وكبار المشرعين كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ.
وفي القيادة تخرج من تحت يده أعظم القادة على مدار التاريخ الذين فتحوا البلدان وهدموا الإمبراطوريات كخالد بن الوليد، وأبي عبيدة.
وفي العلم والفقه تخرج من تحت يده جهابذة العلماء والقراء والفقهاء كعبدالله بن مسعود، وأبي بن كعب، وعبدالله بن عباس.
وفي الدعوة تخرج من تحت يده أقوام لا حصر لهم نشروا الدين في أنحاء العالم، ومن أوائلهم مصعب بن عمير، وأبو ذر، والطفيل بن عمرو الدوسي.
ومن يريد أن يتعلَّم فقه الدعوة حق تعلمها فلينظر ماذا كان يفعل سيد الدعاة وإمامهم محمد ﷺ.
والداعية القوَّال قد لا تجد عيبًا في قوله، لكن فقه الدعوة يعني تنزيل الأقوال على أرض الواقع، وهنا يظهر تطابق القول مع الفعل، أو مخالفته له.
ففقيه الدعوة هو من يعرف الطريق حق المعرفة، ويُلزم نفسه أولاً بما يعلم قبل غيره، ويصبر على الطريق مهما طالت وعلى عقباتها مهما كثرت، ويأخذ بيد الناس إلى طريق الرشاد ويصبر على عنادهم وجهلهم وأذيتهم.
وقد حاولت استنباط بعض من معالم فقه الدعوة عند النبي المصطفى ﷺ لتكون نبراسًا لنا في الطريق إلى الله تعالى:
1- الرفق في الأمر كله:
إن الدعوة تشمل الجميع فلا تستثني أحدًا؛ فهي للجلف الجافي، وللهين اللين، وللملول القلق، وللصبور الكريم، وللبخيل الشحيح.. إلخ.
والمظنون في الملوك الشدة، والمظنون في الدعاة الرفق.
وفقيه الدعوة الحقيقي من أبرز صفاته أن يكون رفيقًا بعيدًا عن الفظاظة والغلظة حتى يتمكن من معاملة الناس باختلاف توجهاتهم وتصرفاتهم، فيتصرف معهم التصرف الأمثل الذي يجعلهم يتقبلون الدعوة ولا ينفرون عنها.
فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مَهْ مَهْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ تُزْرِمُوهُ دَعُوهُ»، فَتَرَكُوهُ حَتَّى بَالَ، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلاَ الْقَذَرِ، إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ»(1).
2- الصبر على الأذى:
وليس معنى أن تكون رفيقًا لينًا أن الناس سوف تُحسن معاملتك، ولن تسيء إليك، بل قد تلقى الإساءة جزاء لإحسانك.
والصبر وصية الله لرسوله حينما قال له: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 35)، فانصاع للأمر، وعندما يعنُّ له من أتباعه من يعكِّر عليه المزاج ولا يرضى بفعل النبي ﷺ معه يتذكَّر المصطفى أولي العزم من الرسل وكيف كان حالهم مع أقوامهم؛ فتهدأ نفسه ويكظم غيظه ويحلم عليهم ويوجههم إلى ما فيه صلاحهم بتذكيرهم بتقوى الله ومَقام النبي ﷺ فيهم؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ النَّبِيُّ ﷺ أُنَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى أُنَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ، فَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ، قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ الْقِسْمَةَ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لأُخْبِرَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: «فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ»(2).
3- مراعاة أحوال المدعوين:
ليس من كمال الدعوة أن تُلقي كلمات على قوم هم عنها غافلون، بل الداعية الفقيه هو الذي يتخير الأوقات المناسبة لإلقاء كلماته ومواعظه؛ حتى تصادف أذنًا صاغية وقلوبًا واعية.
وهذا ما لمسه الصحابة من رسول الله ﷺ؛ فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ؛ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا(3).
4- فهم عقليات المدعوين وثقافتهم والتدرج معهم:
للبيئات والثقافات تأثير كبير على المدعوين، والدخول عليهم بثقافة جديدة ليس بالأمر السهل قبوله، بل قد تجد الممانعة والصد والإعراض، بل والمحاربة.
فهم ليسوا صفحات بيضاء يمكن تسويدها بما نحب، بل هي صفحات مسودة من الأساس، وإزالة تلك المسودات وإعادة الكتابة عليها يحتاج إلى تدرج في الدعوة، وفهم لطبيعة المدعوين.
وهذا ما أفهمه النبي ﷺ لمعاذ بن جبل حينما أرسله لليمن؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ طَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ»(4).
5- مراعاة طبائع المدعوين وقدراتهم:
قدرات الناس تختلف من شخص لآخر؛ فهناك من يصبر على المضرات، وهناك من يجزع لأقل نازلة تصيبه.
وقياس الناس بمقياس واحد مهلك لهم.
وهذا ما طبقه النبي ﷺ على المؤمنين به؛ فعن أَبي سَعِيدٍ قال: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ: «وَيْحَكَ إِنَّ الْهِجْرَةَ شَأْنُهَا شَدِيدٌ، فَهَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتُعْطِي صَدَقَتَهَا؟»،قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَهَلْ تَمْنَحُ مِنْهَا؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَتَحْلُبُهَا يَوْمَ وُرُودِهَا؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَاعْمَلْ مِنْ وَرَاءِ الْبِحَارِ(5)؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَتِرَكَ مِنْ عَمَلِكَ شَيْئًا»(6).
قال النووي: «والمراد بالهجرة التي سأل عنها هذا الأعرابي(7) ملازمة المدينة مع النبي ﷺ، وترك أهله ووطنه، فخاف عليه النبي ﷺ ألا يقوى لها، ولا يقوم بحقوقها، وأن ينكص على عقبيه فقال له: إن شأن الهجرة التي سألت عنها لشديد، ولكن اعمل بالخير في وطنك»(8).
_______________________
(1) أخرجه البخاري، ح(285).
(2) أخرجه البخاري، ح(3150).
(3) أخرجه البخاري، ح(68).
(4) أخرجه البخاري، ح(4347).
(5) «الْعَرَب تُسَمِّي الْمُدُن وَالْقُرَى الْبِحَار»، عون المعبود، (7/112).
(6) أخرجه البخاري، ح(3923)
(7) معلوم أن الأعراب قلما تصبر على المدينة لشدتها ولأوائها ووبائها، فقال للذي سأله عن الهجرة: إذا أديت الزكاة، التي هي أكبر شيء على الأعراب، فقد أديت المعروف، فاعمل من وراء البحار، فهو أقل لفتنتك؛ لأنه قد شرط عليه ما يخشى من منع العرب الزكاة التي بها افتتنوا بعد النبي ﷺ” (شرح ابن بطال، (3/459)).
(8) شرح النووي، (13/9).