(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ {48} وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) (النور)، هذا ما ينطبق على مثيري هذه الشبهة، حيث يدَّعون أن الإسلام يؤكد أنه «لا ضرر ولا ضرار» (وهذا حق)، فلماذا تفرضون علينا إقامة الحدود وهي تُعجز الإنسان وتضره؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
«لا ضرر ولا ضرار»(1)، هذا حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: «قضَى أن لا ضررَ ولا ضِرارَ»(2)، وهذا حديث عظيم عليه مدار الإسلام؛ إذ يحتوي على تحريم سائر أنواع الضرر، ما قل منها وما كثر، بلفظ بليغ وجيز.
وقصة هذا الحديث كما رواها أبو داود بسنده عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ أنه كانت له عَضُدٌ مِنْ نَخْلٍ في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله فيتأذى به ويشق عليه، فطلب إليه أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله فأبى، قال: «فهبه له ولك كذا وكذا» أمرًا رغبه فيه فأبى، فقال: أنت مضار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصاري: «اذهب فاقلع نخله»(3).
يقول الشيخ ابن عثيمين يرحمه الله في شرح هذا الحديث: معنى لا ضرر، ولا ضرار؛ أنه لا يجوز إبقاء الضرر، وأن الضرر منتفٍ شرعاً، فكل شيء فيه ضرر فإنه يجب إزالته؛ لأن الضرر مدفوع شرعاً وعقلاً، ولا يمكن للعاقل أن يقره، ولا للشريعة الإسلامية أن تقره، وأما الضرار فهو من المضارة؛ أي ولا يحل لأحد أن يضار أخاه، حتى وإن كان فيما لا ضرر فيه ما دام يقصد أن يضر أخاه، فمن ضار؛ ضار الله به، والحديث يدل على أن الضرر منفيٌ شرعاً سواءٌ حصل بقصد أو بغير قصد، فإن حصل بقصد فهو مضارة وإن حصل بغير قصد فهو ضرر، فالإنسان أحياناً يفعل الشيء لا يريد الضرر، ولكنه يحصل به الضرر فإنه في هذه الحال يجب إزالته، وأحياناً يفعل ما فيه الضرر قاصداً ذلك، وحينئذٍ يكون مضاراً؛ ولهذا أمثلة كثيرة؛ لو أن رجلاً فتح نافذةً في داره بقصد الإضاءة؛ إضاءة المحل، وإدخال الهواء عليه، ثم تبين أن هذه النافذة تضر الجار بالاطلاع عليه، وعلى ما في بيته، فإنه يجب رفع هذا الضرر بأن تزال النافذة، أو ترفع حتى لا ينكشف الجار بها، وهذا ضرر وليس بمضارة؛ لأن الذي فتح النافذة لا يقصد ضرر جاره؛ ولكن حصل الضرر بغير قصد، ومع ذلك يجب إزالة هذا الضرر.
وأما المضارة فرجل صار يستعمل أشياء مزعجة في بيته بقصد الإضرار على الجيران ليس له في ذلك مصلحة، ولكنه يريد الإضرار على الجيران، فيجب على هذا الإنسان أن يدع ما فيه الضرر على جيرانه، ويكون آثماً بقصد الإضرار(4).
كلمة حق يراد بها باطل
إذاً، الحديث يثبت أنه لا ضرر ولا ضرار؛ ولكن من حقنا أن نسأل هؤلاء: ما علاقة الحديث بإقامة شرع الله تبارك وتعالى في الأرض؟!
الحديث الذي بين أيدينا ينفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الضرر والضرار بغير حق، أما إدخال الضرر على أحد بحق، إما لكونه تعدى حدود الله فيعاقب بقدر جريمته، أو كونه ظلم غيره؛ فيطلب المظلوم مقابلته بالعدل، فهو غير مراد قطعاً، وإنما المراد إلحاق الضرر بغير حق وهذا على نوعين:
أحدهما: ألا يكون في ذلك غرض سوى الضرر بذلك الغير، فهذا لا ريب في قبحه وتحريمه.
والآخر: أن يكون له غرض آخر صحيح، مثل أن يتصرف في ملكه بما فيه مصلحة له، فيتعدى ذلك إلى ضرر غيره، أو يمنع غيره من الانتفاع بملكه توفيرًا له، فيتضرر الممنوع بذلك(5).
هذا هو مراد الحديث كما بينه علماء الإسلام، أما استدلال هؤلاء به على عدم إقامة حد الرجم على الزاني المحصن، والجلد لغير المحصن، أو حد القطع على السارق بعد استيفاء الشروط، أو القصاص من القاتل، فهذا هو عين الضرر على الفرد نفسه وعلى المجتمع بأسره.
ونحن نسأل هؤلاء أيضًا: هل أنتم أرحم بالعباد من رب العباد سبحانه وتعالى؟!
هذه رحمة مصطنعة ومغرضة يقصد من ورائها انتشار الفواحش والرذائل بحماية العصاة والزناة والمجرمين من العقوبة، وكان من الواجب على هؤلاء -إن كانوا يريدون الحق- أن يستدلوا بالحديث على وجوب اجتناب العصاة والمجرمين لما يوردهم العقوبات والمهالك، فلا يسرق السارق حتى لا تُقطع يده، ولا يزني الزاني حتى لا يتعرض للرجم أو الجلد، ولا يقتل القاتل حتى لا يُعرض نفسه للقصاص.
جريمة رد النصوص الشرعية
وهل هناك ضرر وضرار أكبر من رد النصوص الصحيحة الصريحة التي توجب إقامة هذه الحدود، كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (المائدة: 38)، وكقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (البقرة: 178)، وكقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)، وكقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 4)؟!
_________________________
(1) الأربعون النووية (32)، الإمام النووي.
(2) صحيح ابن ماجه (1909)، صححه الألباني.
(3) سنن أبي داود، كتاب الأقضية باب من القضاء (3636).
(4) فتاوى نور على الدرب، محمد بن صالح العثيمين، (193)، موقع الشيخ بتصرف.
(5) جامع العلوم والحكم، ابن رجب الحنبلي، (2/ 212).