إِنَّ من أهداف الحكم الإِسلامي، ومن أهم عوامل التمكين للصحابة الكرام رضوان الله عليهم؛ حرصهم الشديد على إِقامة قواعد النظام الإِسلامي ومساهمتهم في إقامة قواعد المجتمع المسلم كما أمرهم ربهم سبحانه وتعالى في كتابه، وسار عليه نبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. ومن أهمِّ هذه القواعد العدل، والمساواة، ففي خطاب الفاروق للأمَّة أقرَّ هذه المبادئ، فعدالته، ومساواته تظهر في نصِّ خطابه الذي ألقاه على الأمَّة يوم تولِّيه منصب الخلافة؛ ولا شكَّ: أن العدل في فكر الفاروق هو عدل الإِسلام؛ الذي هو الدِّعامة الرَّئيسية في إِقامة المجتمع الإِسلامي، والحكم الإِسلامي، فلا وجود للإِسلام في مجتمعٍ يسوده الظُّلم، ولا يعرف العدل.
إِنَّ إِقامة العدل بين النَّاس ـ أفراداً، وجماعاتٍ، ودولاً ـ ليست من الأمور التَّطوُّعيَّة الَّتي تترك لمزاج الحاكم، أو الأمير، وهواه، بل إِنَّ إِقامة العدل بين النَّاس في الدِّين الإِسلاميِّ تعدُّ من أقدس الواجبات، وأهمِّها، وقد اجتمعت الأمَّة على وجوب العدل، قال الفخر الرَّازي: أجمعوا على أنَّ من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل. (القيود الواردة على سلطة الدَّولة في الإِسلام ص 168).
وهذا الحكم تؤيِّده النُّصوص القرآنيَّة، والسُّنَّة النَّبويَّة، فإِنَّ من أهداف دولة الإِسلام إِقامة المجتمع الإِسلامي الَّذي تسود فيه قيم العدل، والمساواة، ورفع الظُّلم، ومحاربته بجميع أشكاله، وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال، وتيسِّر السُّبل أمام كلِّ إِنسانٍ يطلب حقَّه أن يصل إِليه بأيسر السُّبل، وأسرعها دون أن يكلِّفه ذلك جهداً، أو مالاً، وعليها أن تمنع أيَّ وسيلةٍ من الوسائل الَّتي من شأنها أن تعيق صاحب الحقِّ من الوصول إِليه، وهذا ما فعله الفاروق في دولته، فقد فتح الأبواب على مصاريعها لوصول الرَّعية إِلى حقوقها، وتفقد بنفسه أحوالها، فمنعها من الظُّلم المتوقَّع عليها، وأقام العدل بين الولاة، والرَّعية، في أبهى صورةٍ عرفها التَّاريخ؛ فقد كان يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحقِّ، ولا يهمُّه أن يكون المحكوم عليه من الأقرباء، أو الأعداء، أو الأغنياء، أو الفقراء، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *} [المائدة: 8].
لقد كان الفاروق قدوةً في عدله، أسر القلوب، وبهر العقول، فالعدل في نظره دعوةٌ عمليَّةٌ للإِسلام، به تفتح قلوب النَّاس للإِيمان، وقد سار على ذات نهج الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فكانت سياسته تقوم على العدل الشَّامل بين النَّاس، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتَّطبيق نجاحاً منقطع النَّظير، لا تكاد تصدِّقه العقول، حتَّى اقترن اسمه بالعدل، وبات من الصَّعب جدّاً على كلِّ مَنْ عرف شيئاً يسيراً من سيرته أن يفصل ما بين الاثنين.
لقد قامت دولة الخلفاء الرَّاشدين على مبدأ العدل، وما أجمل ما قاله ابن تيميَّة: إِنَّ الله ينصر الدَّولة العادلة؛ وإِن كانت كافرةً، ولا ينصر الدَّولة الظَّالمة، ولو كانت مسلمةً.. بالعدل تستصلح الرِّجال وتستغزر الأموال.
وأمَّا مبدأ المساواة الَّذي اعتمده الفاروق في دولته؛ فيعدُّ أحد المبادئ العامَّة الَّتي أقرَّها الإِسلام. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ *} [الحجرات: 13].
إِنَّ النَّاس جميعاً في نظر الإِسلام سواسيةٌ، الحاكم والمحكوم، الرِّجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإِسلام الفوارق بين النَّاس بسبب الجنس، واللَّون، أو النَّسب، أو الطَّبقة، والحكام والمحكومون كلُّهم في نظر الشَّرع سواءٌ، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهدٍ، وهذه بعض المواقف الَّتي جسَّدت مبدأ المساواة في دولته:
ـ أصابت النَّاس في إِمارة عمر ـ رضي الله عنه ـ سَنَةٌ (جدب) بالمدينة وما حولها، فكانت تسفي إِذا ريحت تراباً كالرَّماد، فسمِّي ذلك العام عام الرَّمادة، فآلى (حَلَفَ) عمر ألا يذوق سمناً، ولا لبناً، ولا لحماً حتَّى يحيا النَّاس من أول الحيا، فكان بذلك حتَّى أحيا الناس من أوَّل الحيا، فقدمت السُّوق عكَّةٌ من سمن، ووطْب من لبنٍ، فاشتراها غلام لعمر بأربعين، ثمَّ أتى عمر، فقال: يا أمير المؤمنين ! قد أبر الله يمينك، وعظم أجرك، قدم السوق وطبٌ من لبنٍ، وعكَّةٌ من سمن، فابتعتهما بأربعين، فقال عمر: أغليت بهما، فتصدَّق بهما، فإِنِّي أكره أن اكل إِسرافاً. وقال عمر: كيف يعنيني شأن الرَّعية إِذا لم يمسَّني ما مسَّهم. (فقه التَّمكين في القرآن الكريم ص 501)
هذا موقف أمير المؤمنين عام القحط الَّذي سمِّي عام الرَّمادة، ولم يختلف موقفه عام الغلاء، فقد: أصاب النَّاس سنة غلاءٍ، فغلا السَّمن، فكان عمر يأكل الزَّيت، فتقرقر بطنه، فيقول: قرقر ما شئت، فوالله لا تأكل السَّمن حتَّى يأكله النَّاس.
ولم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصَّدر الأول على المعاملة الواحدة للنَّاس كافَّةً، وإِنَّما تعدَّاه إِلى شؤون المجتمع الخاصَّة، ومنها ما يتعلَّق بالخادم، والمخدوم، فعن ابن عباسٍ: أنَّه قال: قدم عمر بن الخطَّاب حاجّاً، فصنع له صفوان بن أميَّة طعاماً، فجاؤوا بجفنةٍ يحملها أربعةٌ، فوضعت بين يدي القوم يأكلون، وقام الخدَّام، فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين ! ولكنَّا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضباً شديداً، ثمَّ قال: ما لقوم يستأثرون على خدَّامهم، فعل الله بهم وفعل ! ثمَّ قال للخدَّام: اجلسوا، فكلوا، فقعد الخدَّام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين. (نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، 1/87).
وكذلك فإِنَّ عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يأكل من الطَّعام ما لا يتيسَّر لجميع المسلمين، فقد كان يصوم الدَّهر، فكان زمن الرَّمادة إِذا أمسى أتي بخبز قد ثرد بالزَّيت، إِلى أن نحروا يوماً من الأيام جزوراً، فأطعمها الناس، وغرفوا له طيِّبها، فأتي به فإِذا قديدٌ من سنامٍ، ومن كبدٍ، فقال: أنَّى هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين! من الجزور التي نحرناها اليوم. فقال: بخٍ بخٍ، بئس الوالي أنا إِنْ أكلت طيِّبها، وأطعمت الناس كرادسها، ارفع هذه الجفنة، هات غير هذا الطَّعام، فأتي بخبزٍ وزيتٍ، فجعل يكسر بيده، ويثرد ذلك الخبز. (مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص 101).
ولم يكن عمر ليطبِّق مبدأ المساواة في المدينة وحدها، من غير أن يعلِّمه لعمَّاله في الأقاليم، حتَّى في مسائل الطَّعام، والشَّراب. (نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، 1/87).
فعندما قدم عتبة بن فرقد أذربيجان؛ أتي بالخبيص، فلمَّا أكله وجد شيئاً حلواً طيِّباً، فقال: والله لو صنعت لأمير المؤمنين من هذا، فجعل له سفطين عظيمين، ثمَّ حملهما على بعيرٍ مع رجلين، فسرح بهما إِلى عمر. فلمَّا قدما عليه؛ فتحهما، فقال: أيُّ شيءٍ هذا ؟ قالوا: خبيص. فذاقه، فإِذا هو شيءٌ حلوٌ. فقال: أكلُّ المسلمين يشبع من هذا في رحله ؟ قال: لا. قال: أمَّا لا؛ فارددهما. ثمَّ كتب إِليه: أمَّا بعد: فإِنَّه ليس من كدِّ أبيك، ولا من كدِّ أمِّك. أَشْبِعِ المسلمين ممَّا تشبع منه في رحلك.
ومن صور تطبيق المساواة بين النَّاس ما قام به عمر عندما جاءه مالٌ، فجعل يقسمه بين النَّاس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبي وقاص يزاحم النَّاس، حتَّى خلص إِليه، فعلاه بالدِّرَّة، وقال: إِنَّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببتُ أن أعلمك أنَّ سلطان الله لن يهابك.
فإِذا عرفنا: أنَّ سعداً كان أحد العشرة المبشِّرين بالجنَّة، وأنَّه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد السِّتَّة، الَّذين عيَّنهم للشُّورى؛ لأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات، وهو راضٍ عنهم، وأنَّه كان يقال له: فارس الإِسلام… عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة. (مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص، 147).
ويروي ابنُ الجوزي: أنَّ عمرو بن العاص، أقام حدَّ الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطَّاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في السَّاحة العامَّة للمدينة، لتتحقَّق من ذلك العبرة للجمهور، غير أنَّ عمرو بن العاص أقام الحدَّ على ابن الخليفة في البيت، فلمَّا بلغ الخبر عمر، كتب إِلى عمرو بن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إِلى العاص بن أبي العاص: عجبت لك يا بن العاص، ولجرأتك عليَّ، وخلاف عهدي. أما إِنِّي قد خالفت فيك أصحاب بدرٍ ممَّن هو خيرٌ منك، واخترتك لجدالك عنِّي، وإِنفاذ عهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إِلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرَّحمن في بيتك، وقد عرفت أنَّ هذا يخالفني ؟ إِنَّما عبد الرحمن رجلٌ من رعيَّتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين، ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين، وقد عرفت أنْ لا هوادة لأحدٍ من النَّاس عندي في حقٍّ يجب لله عليه، فإِذا جاءك كتابي هذا فابعث به في عباءةٍ على قتبٍ حتَّى يعرف سوء ما صنع. (الخلفاء الرَّاشدون ص 243).
وقد تمَّ إِحضاره إِلى المدينة، وضربه الحدَّ جهراً. وروى ذلك ابن سعدٍ، وأشار إليه ابن الزُّبير، وأخرجه عبد الرزاق بسندٍ صحيحٍ عن ابن عمر مطوَّلاً. (نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلاميِّ، 1/88).
وهكذا نرى المساواة أمام الشَّريعة في أسمى درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أن ابنه تمتَّع ببعض الرِّعاية، فآلمه ذلك أشدَّ الألم، وعاقب واليه ـ وهو فاتح مصر ـ أشدَّ العقاب، وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحقُّ من العقاب، حرصاً على حدود الله، ورغبةً في تأديب ابنه، وتقويمه، وإِذا كان هذا منهجه مع أقرب النَّاس عنده، فما بالك بالآخرين؟! (مناقب أمير المؤمنين لابن الجوزي ص، 235).
لقد طبَّق عمر ـ رضي الله عنه ـ مبدأ المساواة الَّذي جاءت به شريعة ربِّ العالمين، وجعله واقعاً حيّاً يعيش، ويتحرَّك بين النَّاس، فلم يتراجع أمام عاطفة الأبوَّة، ولم ينثن أمام ألقاب النَّبالة، ولا تضيَّع أمام اختلاف الدِّين، أو مجاملة الرِّجال الفاتحين، لقد كان ذلك المبدأ العظيم واقعاً حيّاً، شعر به كلُّ حاكمٍ، ومحكوم، ووجده كلُّ مقهورٍ، وكلُّ مظلومٍ.
لقد كان لتطبيق مبدأ المساواة أثره في المجتمع الرَّاشدي، فقد أثَّر الشُّعور بها على نفوس ذلك الجيل، فنبذوا العصبية التقليديَّة، من الادِّعاء بالأوليَّة، والزعامة، والأحقيَّة بالكرامة، وأزالت الفوارق الحسبية الجاهليَّة، ولم يطمع شريفٌ في وضيعٍ، ولم ييأس ضعيفٌ من أخذ حقِّه، فالكلُّ سواءٌ في الحقوق، والواجبات، لقد كان مبدأ المساواة في المجتمع الرَّاشدي نموذجاً صعباً لمن بعده، ونوراً جديداً أضاء به الإِسلام جنبات المجتمع الإِسلامي، وكان لهذا المبدأ الأثر القويُّ في إِنشائه. (فن الحكم في الإِسلام، ص 478).
__________________________________
1- عمر بن الخطاب، د. علي محمد الصلابي.
2- القيود الواردة على سلطة الدَّولة في الإِسلام، عبد الله إبراهيم زيد.
3- وسطيَّة أهل السُّنَّة بين الفِرَق، محمَّد باكريم.
4- فقه التَّمكين في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي.
5- نظام الحكم في الشَّريعة والتَّاريخ الإِسلامي، الظافر القاسمي.
6- مناقب أمير المؤمنين، أبو الفرج ابن الجوزي.
7- فن الحكم في الإِسلام، مصطفى أبو زيد فهمي.