التاريخ الاستعماري واحد، والفكر الإجرامي منذ الحملة الفرنسية بقيادة نابليون على مصر، وحتى الآن، ينطلق من فكرة أساسية؛ وهي القضاء على مراكز الوعي والثقافة في الدول المحتلة.
نابليون بونابرت، في عام 1798م، عندما دخل غازيًا إلى مصر كان قراره الأول دخول الجامع الأزهر بالخيول، وتدنيس المصلى بأحذية الجنود عمدًا لتدمير مركز الوعي المصري، وإذلال المصريين بضرب مقدسهم.
وهكذا بعد أكثر من 200 عام، ينفذ الإجرام الصهيوني الأمر نفسه، ويقوم بعملية تدمير منظم، وممنهج، لجميع مراكز الوعي والثقافة في غزة، عبر تدمير جامعاتها، ومراكزها الثقافية، ونهب كل ما بغزة وفلسطين من آثار خالدة تدل على أن هذه الأرض فلسطينية منذ آلاف السنين.
وكما قتل الاستعمار الفرنسي شيوخ الأزهر، وانتقم من الجامع الأزهر، يقوم العدوان الإجرامي «الإسرائيلي» اليوم بتدمير ومحو كل آثار جامعات غزة لأنها مصنع الأبطال التي تعلموا فيها كيف يقاوم الفلسطيني بالحجر، وبأحدث ما تنتجه التقنيات الحديثة في مواجهة العدوان «الإسرائيلي» الفاشي.
جامعات غزة.. استهداف ممنهج
تعرضت جامعات غزة لهجوم مروع ومدمر من قبل طائرات الإجرام الصهيوني، ضمن سياق حرب الإبادة التي يشنها الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني ومؤسساته، بما في ذلك مدارسه، وجامعاته، ومستشفياته، وكنائسه، ومساجده، في ظل صمت دولي مؤلم وتواطؤ لافت، بالإضافة إلى عجز وفشل واضح من المنظمات الأممية المكلفة بحماية الأرواح والبنى التحتية الحيوية من هجمات جيش الاحتلال الصهيوني الوحشية.
ويأتي هذا الإجرام من كيان يحظى بالدعم والدفاع الشديد من الدول الكبرى في العالم وأتباعها في أوروبا، وهو ما ظهر في التدمير الممنهج بكل قسوة وعداء، دون أدنى اعتبار للمواثيق والقوانين الدولية التي تهدف إلى حماية المدنيين والبنية التحتية الصحية والتعليمية والخدمية.
ولم تسلم الجامعات الفلسطينية من هذا العدوان الممنهج، على كل شيء في أرض غزة، فقد ركز منذ السابع من أكتوبر على تدمير كل جامعة تقع تحت يده، وبعد أربعة أيام فقط من بدء العدوان دمرت الطائرات «الإسرائيلية» الجامعة الإسلامية، وهي كبرى جامعات القطاع، وكان التدمير شاملًا لكل كلياتها ومعاملها وحتى أسوارها.
وفي 5 نوفمبر 2023م، تعرضت جامعة الأزهر في غزة لهجوم مشابه من قوات العدو الغاشم؛ ما أسفر عن إلحاق أضرار جسيمة بالمبنى الجامعي، كما تعرضت جامعة القدس المفتوحة في قطاع غزة إلى هجوم مباشر في 19 نوفمبر الماضي؛ ما تسبب في تدمير أجزاء كبيرة من المبنى الجامعي.
ونسف الاحتلال، في 18 يناير 2024م، جامعة فلسطين وسط القطاع، التي كانت تُعد صرحًا علميًا وتعليميًا بارزًا في فلسطين، واستخدم العدو في تدميرها 315 لغمًا، كما قام جيش الكيان في ذات التاريخ، بتفجير المبنى الرئيس لجامعة الإسراء جنوب القطاع بعد نحو 70 يومًا من اقتحامه، وتحويله إلى ثكنة عسكرية ومركزًا لقنص المواطنين ومعتقلًا للتحقيق معهم.
وبهذا التدمير الشامل للجامعات في القطاع، يترك جيش الاحتلال الصهيوني بصمة أخرى، تشهد على جرائمه البشعة، واستهانته بأي قوانين دولية أو مواثيق إنسانية، وتضاف إلى صفحات تاريخه الملوثة بدماء المذابح الصهيونية التي وقعت في قرى ومدن فلسطين خلال عامي 1948، 1967م وحتى الوقت الحالي، دون إظهار أدنى رحمة بالإنسانية، بل كائنات متوحشة تدمر كل مظهر إنساني في طريقها.
جامعات غزة.. بيت المقاومة ومصنع الأبطال
لقد قامت الجامعات في فلسطين بالدور الأهم في تصنيع الوعي الوطني، وتوجيهه إلى مقاومة العدو، واسترداد الأرض، وكانت تلك الجامعات المنارة الحقيقية التي تخرّج في كل عام أبطالًا يقاومون الكيان المحتل، وليس فقط خريجين يحملون شهادات عليا.
وساهمت الجامعات في النضال الوطني الفلسطيني، حيث قدمت معينًا لا ينضب من الكفاءات السياسية والاجتماعية والأكاديمية، الذين تولوا مسؤوليات بناء الهوية الوطنية الفلسطينية.
وقد بث هذا الدور قديمًا الرعب في الكيان الغاصب، الذي نفى العديد من الأكاديميين وفرض إجراءات إشراف ورقابة عسكرية على النظام الأكاديمي في فلسطين ككل.
وفي غزة، كانت الجامعة هي المصنع الحقيقي لكل الأبطال المقاومين الذين استشهدوا، أو الذين يقاومون الآن فوق الأرض وتحت الأرض هذا العدوان الغاشم.
وظلت جامعات غزة رافدًا مهمًا للمقاومة، وتميزت الجامعة الإسلامية بتخريج عدد كبير من الخريجين الذين قادوا العمل التنظيمي في غزة، ومن بينهم العديد من القادة البارزين في المقاومة والسياسة، مثل إسماعيل هنية، ويحيى السنوار، ومحمد الضيف.. وغيرهم، كما خرَّجت الجامعة مثقفين وقادة سياسيين بارزين؛ مما جعلها جزءًا لا يتجزأ من النسيج الثقافي والسياسي في فلسطين.
ويجسد خريجو جامعات غزة جيلًا فلسطينيًا واعيًا لقضيتهم، ويتمتعون بالقدرة على التعامل مع التقنيات والتكنولوجيا لمواجهة التحديات، حيث يشهد «طوفان الأقصى» على مهارتهم، وقدرتهم على التعامل مع أحدث التكنولوجيا العالمية، باختراق أكثر الأسوار تأمينًا على وجه الأرض، فلم تكن ستخترق تلك الأسوار وما عليها من أجهزة تتبع واستشعارات دون نبوغ في عقول أبطال المقاومة، ولقد كانوا أيضًا مبدعين في ابتكار أجهزة التشويش التي نجحت في تعطيل الطائرات المسيرة للكيان المحتل.
استهداف الجامعات في غزة وتدميرها، إذًا، إستراتيجية استعمارية قديمة، حيث يسعى العدو إلى تدمير الثقافة والوعي اللذين تغلبا على عتاد جيش الاحتلال، وأذل إمكاناته التكنولوجية، وقدراته الاستطلاعية؛ وهو ما انعكس على تعامل العدو الغاصب بغدر مذهل، لمحاولة إنكار هزيمته في «طوفان الأقصى» بعقول المقاومة التي تخرَّجت في جامعات غزة.