يشتاق المسلمون في هذه الأيام لشهر رمضان أملًا في الهداية والرحمة، ويزيد ذلك لهفةً أن يأتي هذا العام في ظل أحداث غزة التي تهم قلب كل مسلم، مما يجعل القلوب ظمئة لما يصبرها ويهديها في روحانيات ترفع غاياتها لتعانق السماء، ورغم هذا الشوق وتلك الآمال العالية؛ فإن أقل القليل هم من يقتنصون فرصة رمضان، حيث سقط الكثيرون أمام غزو الفكرة المادية للعالم.
وقد بات ضروريًا أن يدرك المسلم أثر الفكر المادي على نظرته لرمضان خاصة وعباداته عامة، ويرى رمضان كمحرر له من سجن المادية، وجرعة وقائية من آفة هذا العصر المتمثلة فيه.
طغيان المادية آفة العصر
إن من أشد ما ابتلي به إنسان هذا العصر التأثر بالفكر المادي الذي يرى الإنسان كجسد -فحسب- ويفصله عن الروح، وقد ترتب على تلك الرؤية الدفع بالناس تجاه الاستهلاكية، وذلك من خلال ترسيخ مبدأ يقرر أن تحقق السعادة لا تكون إلا من خلال الشراء.
يصف ذلك د. عبدالوهاب المسيري فيقول: «والإنسان من منظور الإمبريالية النفسية هو أساساً حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، وسلوكه لا بد أن يصبح نمطياً حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع، هذا الإنسان لا يهدف إلا إلى تحقيق المنفعة واللذة لنفسه، ويرى أن خلاصه يكمن في ذلك، في الماضي كانت «الحاجة أم الاختراع»، أما في إطار الإمبريالية النفسية فأصبح «الاختراع أبو الحاجة»، إذ لا بد أن تظهر سلعة جديدة كل يوم»(1).
لذا ستجد من تأثر بهذا الفكر يحصر سعادته في أمور مادية محضة، ويمكن أن يسلك المرء هذا التوجه دون إدراكه بتمكن هذا الفكر منه، وعلى قدر نسبة تمكن تلك الآفة من عقله يكون قدر نسبة تجلي هذا في سلوكه.
رمضان وغياب الروحانية
إن تأثر المسلم بالفكر المادي يؤثر في تصوراته ويتحكم بأولوياته ويوجِد أهدافه، حتى ليُحاط بمتطلبات الحياة المادية ويدور في فلكها، فتغيب روحانية رمضان وتجلياتها على قلب العبد وخُلقه، ويحل محلها روحانيات مادية مخادعة غير حقيقية تتمثل في الآتي:
1- التركيز على الاقتناء: كحصر إظهار الفرح بشهر رمضان بالزينة وما اعتيد من مظاهر الاحتفال.
2- التبذير والإسراف: فيكون همّ صاحبه المبالغة في إعداد قوائم من أصناف الطعام والحلوى، في حين أنه يُهمل الاستعداد القلبي والروحي لهذا الشهر الكريم.
3- الفردية: فبدلاً من أن يوجهه ألم الجوع لرحمة إخوانه الفقراء ومن يتم تجويعهم في غزة وغيرها، ينغمس في ملذاته.
4- عدم الشعور بالرضا: وما يتبع ذلك من الرغبة في مزيد من المال لتحقيق المزيد من القدرة الشرائية.
5- النظرة للشريعة من خلال منظور مادي بحت: كالبحث عن المنافع والعلل وراء كل تشريع لتكون دافعة له إلى العمل دون العبودية لله، وليسهل له التملص منها متى أراد.
كل هذا وغيره من تجليات التأثر بالمادية، وهو مناقض تمامًا لما أرساه الإسلام، الذي يرى أن الإنسان جسد وروح، وأن الجسد قائم بالروح لا العكس، فيدعوه لتحقيق خيري الدنيا والآخرة، ويجعل القيمة العليا للآخرة، فكثر في القرآن ما في معنى قوله تعالى عن المؤمنين ﴿الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ﴾ (النساء: 74)، ورغَّب في بذل النفس لأجل للفوز بالآخرة، وهذا عكس ما تؤسسه المادية التي تجعل القيمة العليا للجسد وملذاته.
فلا يمكن بحال أن تتلاقى الفكرتان، ولذا؛ فمن وجد في نفسه تأثرًا بتلك الأفكار فعليه أن يُعيد ضبط بوصتله، وأن يقي نفسه تتبع خطوات الشيطان، وها قد جاء رمضان لتحصيل تلك الثمرة، وربما يسأل البعض: كيف يُحرر رمضانُ العبدَ من الفكر المادي؟!
رمضان.. والتحرر من الفكر المادي
على عكس مبدأ المادية الموجه للاستهلاكية بتصدير وهْم الاحتياج؛ جاء رمضان محرراً للمسلم من سطوة المادية، فهو يُقرر:
1- إثبات قوة المسلم المستمدة من عبوديته لله؛ مما يجعله صامدًا أمام حاجاته الجسدية في أشد نوعيها المتمثل في شهوتي البطن والفرج.
2- الخروج من فرديته إلى اجتماعه مع المسلمين شعورياً وتعبدياً وقت الصيام، فيزيده الجوع رحمة بإخوانه الفقراء، فيشملهم بدعائه ويدعمهم بماله وكل ما يستطيع.
3- أهمية تدارس القرآن الذي يُصحح المعايير ويبني التصورات السليمة عن حقيقة الحياة الدنيا الفانية في جنب حياة الخلود الآخرة.
4- التدرب على الاستسلام لله والرضا بحكمه وشرعه، فمن ترك المباح عادةً -كالطعام والشراب- تقوى لله سيسهل عليه ترك ما حرم من باب أولى.
5- أنه تجربة حية لمفهوم السعادة الباقية النابعة من السكينة والطمأنينة بعبادة الله، وليست السعادة المزيفة المنقضية بزوال السبب، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أشعَرُ بيتٍ قالته العربُ كلمةُ لَبيدٍ: ألا كلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطلُ»(2).
إذاً؛ فرمضان ليس سببًا في العتق من النيران فحسب؛ ولكنه أيضاً سبب في تحرر النفوس من قيود المادية لتذوق براح الروحانية في العبودية لله.
التحصين خير من العلاج
حذر الله عز وجل في كتابه وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم من موارد الفتن وكل ما يضل العبد عن غايته التي خُلق لها، ومن ذلك:
1- حب الدنيا: قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).
2- حب المال والشرف المادي: عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غنَمٍ بأفسدَ لَها من حِرصِ المَرءِ علَى المالِ والشَّرَفِ لدينِهِ»(3).
3- الأمل الزائف: يقول تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ (الحجر: 3).
4- اتباع الهوى: يقول تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ (القصص: 50).
وغير ذلك من موارد الفتن التي حذر الله عز وجل منها عباده.
ومن رحمة الله أن جعل لعباده أوقاتًا خصها أكثر من غيرها بالمغفرة والعتق من النيران، فإنها توقظ الغافل، وتزيد المهتدين هدى، فعلى كل عاقل أن يسترشد بكتاب الله لينقذ نفسه من الوقوع في الفتن؛ وعلى رأسها مادية العصر، ولن يجد فرصة أفضل من شهر القرآن ليعيد ضبط بوصلته على بصيرة من الله.
___________________
(1) رحلتي الفكرية، ص193.
(2) أخرجه البخاري (3841)، ومسلم (2256).
(3) أخرجه الترمذي (2376)، وأحمد (15794) وصححه الألباني.