تمثل الكثير من الأعمال الأدبية تأريخًا للأفكار واللغة والوقائع السياسة والاجتماعية وغير ذلك في زمن كتابتها، وقد نشأ لأجل هذا مناهج نقدية تعالجها عبر هذه الوِجهة، ولما كانت أكثر المناهج لا تراعي الرؤية الأخلاقية بمفهومها الشامل في التعامل مع هذه الوقائع والأحداث، خرج مذهب الأدب الإسلامي في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، فكان أدب أصحابه هو «التعبير الفني الهادف عن واقع الحياة والكون والإنسان عن وجدان الأديب؛ تعبيرًا يَنبع مِن التصور الإسلامي للخالق عز وجل ومخلوقاته، ولا يُجافي القيم الإسلامية»(1).
وعلى ذلك، فيصح أن نعتبر ما أنتجه أصحاب هذا المذهب معبرًا عنهم عقديًا وفكريًا وسلوكيًا، فإنه قد راعى معيار الصدق إلى حد بعيد.
باكثير.. والأدب الإسلامي
وأديبنا علي أحمد باكثير(2)، رحمه الله، من رواد هذه المذهب، ويظهر ذلك بجلاء في مؤلفاته التي اقتبسها من قصص عالمية، ففي مسرحيته «فاوست الجديد»، وهي مأخوذة عن الأسطورة الألمانية القديمة التي تحكي عن رجل باع نفسه للشيطان؛ فلم يتصور باكثير صاحبها إلا مسلمًا، وقد حكى أن أحد النقاد الحداثيين راجعه في ذلك، فرد عليه بقوله: «وماذا يضيرك يا دكتور؟ لو وجدت مذهبًا أو عقيدةً أسمى من الإسلام وأقرب إلى المنطق والعقل لجعلت أوديب يعتنقه، ولكن ما حيلتي؟!»(3)، وهكذا صنع في سائر معالجاته لقصص الأدب العالمي -مهما كان بعيدًا في أصله عن مظان ذلك- فضلًا عما أنشأه أصالةً.
مسرحية «شيلوك الجديد»
وقد عالج في هذه المسرحية القضيةَ الفلسطينية مستدعيًا قصة شكسبير «تاجر البندقية»، التي تحكي قصة المرابي اليهودي «شيلوك» الذي شرط على مقرضه أن يقطع رطلًا من لحمه إن لم يسدد له دينه في الأجل المعلوم، ولما عجز عن الأداء طالب بإنفاذ شرطه في حضرة المحكمة، التي قضت في النهاية له بما شرَطَ على ألا يأخُذ مع اللحم قطرة واحدة من دم غريمه وإلا كانت روحه هي الثمن، فتنازل أخيرًا عن شرطه لاستحالة الأمر، بل وعن فوائد قرضه.
و«شيلوك الجديد» لباكثير مسرحيتان في واحدة صدرت عام 1945م؛ الأولى: «المشكلة»، ويمثل شيلوك فيها القائم على الاقتصاد الربوي في المنظومة الصهيونية، وكوهين المحامي الذي ينتزع حقوق الأراضي الفلسطينية من أصحابها لفائدة الاستيطان اليهودي، وزيكناخ الممثل للجماعات المسلَّحة الدمويَّة التي تُصفِّي المعترضين على المشروع الصهيوني والمقاومين له، وراشيل التي تؤدي دور المرأة التي توظف جسدها لمصالح قومها، التي دخلت في علاقة غرامية مع عبدالله فياض آل أمرها إلى بيعه ميراث أبيه في مجلس للعربدة والقمار، وزمنها منذ عام 1935م حتى وقت تأليفها.
والثانية: «الحل»، الذي استدعى فيها باكثير مشهد المحاكمة عند شكسبير؛ ومثُلَ فيها شيلوك ومحاميه كوهين، في مقابل ميخائيل جاد، ممثل عرب فلسطين ومعاونه عبدالله فياض، إلى جانب إبراهام ممثل اليهود اللاصهيونيين، وأ. فيصل، ممثل جامعة الدول العربية النائب عن عربي باشا، كلهم أمام هيئة تحكيم دولية بناء على اقتراح دولة الانتداب البريطاني، والممثل عنها الجنرال سوردز، وزمنها المستقبل.
الحل السياسي للقضية الفلسطينية
وفي المسرحية الثانية يقدم باكثير الحل السياسي للقضية الفلسطينية من خلال مشاهد المحاكمة، ففي الفصل الأول يعرض حجج الطرفين، التي انتهت بندم البريطانيين على «وعد بلفور» وإثبات حق العرب في فلسطين ومحاولة إلزام الصهيونيين بالكتاب الأبيض، ودعوتهم إلى التنازل عن فكرة قيام دولة يهودية والعيش في سلام مع العرب كما كانوا وقت حكم العرب لفلسطين، وفي الفصل الثاني يرفض الصهيونيون ذلك، ويتنزّل ممثلو الجامعة العربية بالسماح بقيام دولة يهودية في فلسطين دون مقاومة على شرط حفظ حقهم في مقاطعتها اقتصاديًا، ثم في الفصل الثالث وزمنه بعد 7 سنوات من المحاكمة عندما تأتي ثمرة المقاطعة الاقتصادية على الدولة الصهيونية، وعدم استطاعتها قطع لُحمة فلسطين عن جسدها العربي والإسلامي، وبذلك تصح نبوءة العرب بمصيرها الزائل.
وقد يحكم الكثير الآن بسذاجة هذا الطرح، وأنه تصور حالم عن إنهاء القضية الفلسطينية؛ لا سيما مع ما وقع من نكبات لا في فلسطين وحدها، بل وفي سورية ولبنان ومصر وغيرها على يد دولة «إسرائيل»، لكن نابهًا قد تناول هذا ونقده في حينه.
قطب واختلافه مع باكثير
كتب سيد قطب مقالًا في مجلة «الرسالة» يتناول فيه مسرحية «شيلوك الجديد» بعد صدورها بأشهر قليلة، وقد أثنى على المسرحية؛ فثمَّن سلاح المقاطعة الشاملة للصهاينة، وذكر شعرًا من ديوانه عن وجوب التضحية بالدماء والجهاد في سبيل هذه القضية، وأن يتوحد المسلمون حولها مجابهين وحشية الغرب وتعطشه للدماء، وختمها بكلام لعل من يقرأه لا يصدق أنه قد مر عليه قريبًا من 8 عقود! قال:
«ولكنني أختلف مع الأستاذ (باكثير) في أمر واحد، ذلك أنه يبدو في سياق الرواية وفي ختامها أنه واثق بأن هناك شيئاً اسمه «الضمير البريطاني» أو «الضمير الغربي» على وجه العموم، يبدو ذلك في فصل المحاكمة الذي عقده في نهاية المسرحية! وأنا أخشى هذه الثقة على قضية فلسطين، كما أخشاها على جميع قضايا البلاد العربية.
ليس للسياسة البريطانية ضمير، وليس للعالم الغربي شرف.
هذه هي العقيدة التي أعتقد أن من واجب كل كاتب وكل سياسي في هذه الشرق العربي أن يمكن لها في ضمير الأمة العربية بل في ضمير الشرق الذي ما نكب في تاريخه كله بمثل ما نكبته الثقة في الضمير البريطاني، وفي الشرف الغربي!
ولن ينال الشرق العربي -أو الشرق عامة- شيئاً من حقه، ولن يعرف الطريق الصحيح والوسائل المجدية لنيل هذا الحق، قبل أن ييأس اليأس الكامل من هذا الضمير البريطاني، ومن هذا الشرف الغربي، وقبل أن يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً في الصراع مع ذلك الوحش الأوروبي -والأمريكي أيضاً- ذلك الوحش الناعم الملمس، واللبد على بعد ملليمتر من هذا الأديم الرقيق!»(4).
وختامًا، فحل القضية الفلسطينية ليس بعيدًا عن التوعية به في المنتوجات الأدبية، وإنا لنفتقد الآن التعاطي معها عبر ذلك في ظل كثرة ما يقابلها مما مُلئ بالركاكة لغةً وفكرًا وثقافةً بل إبداعًا، فرحم الله أدباءنا العظام، وأخلف علينا مثلهم.
___________________
(1) نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، د. عبدالرحمن رأفت الباشا، ص92.
(2) ولد في 21 ديسمبر 1910، وتوفي في 10 نوفمبر 1969م، شاعر وكاتب مسرحي وروائي يمني مصري، من أصل حضرمي، إندونيسي المولد، ألَّف العديد من المسرحيات الملحمية الشعرية والنثرية والروايات التاريخية والترجمات، حصل على الكثير من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية الأولى.
(3) لقاؤه مع إذاعة الكويت في أبريل 1969م.
(3) مجلة الرسالة، عدد (655)، بتاريخ 21 يناير 1946م.