لا فلسطين دولة عظمى ولا أراضيها شاسعة وممتدة جغرافياً، ورغم ذلك يبقى للقضية الفلسطينية أهميتها ورمزيتها كقضية تحرر وطني في وجه احتلال إحلالي، وبما تمثله كآخر حالة استعمارية على المستوى الدولي، إضافة لما سبق، مثلت عملية 7 أكتوبر 2023م وما تلاها من حرب إبادة تشنها قوات الاحتلال ضد الفلسطينيين في قطاع غزة محطة فارقة على صعد مختلفة، وكثرت التحليلات التي تسعى لرصد انعكاساتها وتأثيراتها على القضية الفلسطينية والمنطقة وحتى على بعض السياقات الدولية.
فمن التأثيرات المباشرة المتعلقة بالقضية الفلسطينية قوة الردع «الإسرائيلية»، ونظرة المقاومة ودول المنطقة للاحتلال، وسقوط بروباغندا «الجيش الذي لا يقهر»، وملف الأسرى وغير ذلك.
مسار الانتخابات وضع العدوان على غزة في قلب حملات المرشحين وخطابهم
وعلى الصعيد الإقليمي، ثمة من توقع ارتدادات للعدوان على بعض الدول من زاوية موقف أنظمتها وأدوارها خلال الحرب، وفي السياق الدولي، رصدت بعض الكتابات الحرب ضمن سياقات تداعي النظام الدولي الحالي وسرعة تحوله نحو نظام تعددية قطبية بما في ذلك آلام هذا الانتقال ومضاعفاته، والعلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي على المستوى الشعبي والنخبوي على أقل تقدير.
تأثير العدوان، وما تخلله من بسالة المقاومة وصمود الناس من جهة، وجرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال من جهة أخرى، ولدت تأثيرات إضافية داخل بعض الدول، مما لم يكن سابقاً، لا سيما في سياق الانتخابات؛ ففي بريطانيا، ارتبطت عودة «جورج غالاوي» للبرلمان عن دائرة روشديل في مدينة مانشستر بالحرب على غزة بشكل مباشر، ولذلك سكتها الصحافة البريطانية «انتخابات غزة»، كما أن الرئيس الأمريكي «جو بايدن» يعاني في حملته الانتخابية من تراجع الشعبية واعتراضات الأمريكيين من أصول عربية ومسلمة، بل داخل الحزب الديمقراطي بسبب دعم إدارته الواسع للاحتلال في عدوانه.
بيد أن التأثير الأكبر للعدوان على غزة يتبدى في سياق الانتخابات المحلية في تركيا، وهو أمر يشكل استثناء لافتاً بلا شك، ذلك أن الانتخابات التركية في عمومها ليست شديدة التأثر بملفات السياسة الخارجية -إلا في حالات معينة- والانتخابات المحلية هي الأقل تأثراً في هذا الإطار.
إلا أن مسار الانتخابات المحلية الحالية وضع العدوان على غزة في قلب حملات المرشحين وخطابهم، ولعل أحد أهم الأسباب حضور القضية لدى الشارع التركي، لكنه ليس السبب الوحيد بالتأكيد، إذ أدى موقف الحكومة الرسمي من العدوان دوراً مهماً في ظل انتقادات كثيرة وجهت لها من قبل المعارضة وشرائح في المجتمع، ولا سيما فيما تعلق بالتجارة المستمرة مع دولة الاحتلال حتى في ظل العدوان، حتى ولو قال وزير التجارة عمر بولاط: إن معظمها من القطاع الخاص؛ إذ كان ذلك يعني أن بعضها من القطاع الحكومي الرسمي، ويعني كذلك أن الحكومة لن تتدخل بخصوص القطاع الخاص لا قانوناً ولا توجيهاً، وهو ما أكده الوزير.
أكرم أوغلو أرسل مساعدات لغزة بعد أن هاجمه مرشح «العدالة والتنمية» كوروم
ولم يقتصر حضور غزة في الحملة الانتخابية على الاهتمام، بل دخل في مجال الاتهامات والتنافس والمزايدات، فقد حرص مرشح حزب الشعب الجمهوري والرئيس الحالي لبلدية إسطنبول «أكرم إمام أوغلو» على إرسال حملة مساعدات للقطاع، بعد أن هاجمه منافسه الأبرز مرشح حزب العدالة والتنمية «مراد كوروم»، متهماً إياه بعدم تفعيل البلدية في هذا الاتجاه، وقد كرر الأخير أكثر من مرة في خطاباته الانتخابية القول: إن أطفال غزة والمظلومين في غزة سيفرحون لفوزه في الانتخابات؛ ما جلب له الكثير من الانتقادات.
كما أن المرشَّحَين المذكورين تبادلا الاتهامات بشأن التعاون مع شركات «إسرائيلية» للترويج لهما في الحملة الانتخابية، فقالت حملة «كوروم»: إن «إمام أوغلو» تعاون مع شركة لها فرع في «إسرائيل»، بينما قالت حملة «إمام أوغلو»: إن «كوروم» تعاقد مع شركة «إسرائيلية» مقدمة الدليل على ذلك ما اضطر الأخير لتغييرها.
وعليه، فحضور غزة في الحملات الانتخابية وخصوصاً في إسطنبول مستمرة وتزداد مع الوقت واقتراب يوم الاقتراع، فهل يمكن أن يكون لها تأثير على النتائج؟
من المهم ابتداء الإشارة إلى أن تأثير العدوان على غزة على النتائج لن يكون كبيراً، فهو ليس العامل الوحيد ولا الأهم المؤثر فيها، إذ هناك عوامل أرجح في الوزن مثل الانتماء الحزبي، والأيديولوجيا، والاقتصاد، وأسماء المرشحين، والبرامج والوعود الانتخابية، والحملات، ومنظومة التحالفات، وغيرها؛ وعليه، من الصعب القول: إن غزة سترجح كفة أحد الأحزاب في عموم تركيا، إلا أن ذلك لا يعني أيضاً التقليل من أثرها.
ذلك أن الأثر القليل قد يساهم في فوز مرشح أو هزيمة آخر لا سيما في المدن والمحافظات التي تتقارب فيها حظوظ المرشحين، ويصبح لكل صوت أهميته وتأثيره، وهنا، يجدر التذكير بأن بعض المدن الكبرى أمثلة جيدة على هذا التقارب في الفرص، وتحديداً في كل من أنقرة وإسطنبول، ولعل ذلك أحد أهم أسباب حضور غزة في الحملات الانتخابية في إسطنبول أكثر من أي مدينة أو محافظة أخرى.
ذلك أن الشرائح المنزعجة من موقف الحكومة (وبالتالي حزب العدالة والتنمية) من العدوان على غزة عديدة، منها الإسلاميون في عمومهم، ومن ضمنهم مؤيدو الأحزاب المعارضة المحافظة، وبعض التيارات المؤيدة للحزب الحاكم، والعرب حاملو الجنسية التركية.
تأثير موقف الحكومة من العدوان على النتائج لن يكون كبيراً إلا بالمحافظات شديدة التنافس مثل إسطنبول
ومما يشجع هذه الشرائح أو غيرها لنوع من التصويت العقابي للعدالة والتنمية أن مستوى المخاطرة في الانتخابات المحلية أقل بكثير من الرئاسية والتشريعية من جهة، وأن هناك أكثر من تصويت يوم الانتخابات من جهة أخرى؛ ذلك أن المقترعين سيصوتون لاختيار رؤساء البلديات في المحافظات (والمدن الكبرى) وأحياء المدن وكذلك لانتخاب المجلس البلدي في كل منهما؛ ما يمنح للناخب مساحة من المناورة في حال أراد إيصال رسالة احتجاج، فيمكن له أن يصوت لمرشح أحد الأحزاب لرئاسة البلدية ولحزب آخر في المجلس البلدي، فضلاً عن انتخابات أحياء المدن الأقل أهمية وثقلاً ودلالة من رئاسة بلديات المدن الكبرى.
وعليه، ينبغي لدى تقييم نتائج الانتخابات النظر في 4 نتائج معاً؛ رئاسة بلديات المحافظات والمدن الكبرى ومجالسها البلدية، ورئاسة بلديات أحياء المدن الكبرى ومجالسها البلدية، وفي تجميع الصورة كاملة يمكن قراءة رسائل الصندوق ومدى تأثير بعض العوامل عليها وفي مقدمتها الحرب على غزة، رغم أن رئاسة بلدية المدن الكبرى -وتحديداً أنقرة وإسطنبول- هي الأهم بالتأكيد.
ولذلك، في الخلاصة، رغم أن ملفات السياسة الخارجية لها تأثير محدود تقليدياً على الانتخابات المحلية، فإن العدوان على غزة سيكون استثناء مستحقاً لهذه القاعدة في سياق الانتخابات المحلية الحالية في تركيا، ورغم أن تأثير العدوان، أو بالأحرى تقييم موقف الحكومة التركية منه، على النتائج قد لا يكون كبيراً، فإنه سيكون ملموساً في المحافظات التي تشهد منافسة شديدة وفرصاً متقاربة وفي مقدمتها إسطنبول على وجه التحديد.
ويمكن القول: إن هذا التأثير قد يكون حاسماً في ظل منظومة التحالفات القائمة واستمرار المذبحة في غزة؛ ما يدفع للنظر في توجهات التصويت لحزب العدالة والتنمية من جهة، وللأحزاب الإسلامية والمحافظة الأخرى حديثة التأسيس من جهة أخرى، حيث تنافس الأخيرةُ الحزبَ الحاكم وترفع لواء المعارضة له فيما يتعلق بغزة، ويمتاز سقفها عن سقفه بشكل ملحوظ؛ ما قد يجعلها خياراً مقبولاً بالنسبة لبعض الشرائح الانتخابية.