تشكل منى أبو الفضل (1945 – 2008م) أحد أركان مدرسة المنظور الحضاري التي تشكلت نواتها الأولى في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، واستهدفت إحياء المفاهيم والقيم الإسلامية وتضمينها في حقل العلوم السياسية، وقد تركز اهتمامها المعرفي على حقل العلوم السياسية أولاً، ثم تجاوزه في مرحلة لاحقة إلى الدراسات النسوية حين أسست مؤسسة المرأة والحضارة بالقاهرة لتكون مركزاً بحثياً متخصصاً يقدم رؤى ومقاربات إسلامية بديلة في قضية المرأة.
بدأ اهتمام منى أبو الفضل بملف المرأة المسلمة في أواخر القرن الماضي بعد أن استرعى انتباهها الأهمية التي يحظى بها في دوائر الفكر بشكل عام، وتزايدت في الربع الأخير من القرن الماضي الذي حمل متغيرين أساسيين في التعاطي مع قضايا المرأة:
الأول: التأسيس للدراسات النسوية باعتبارها حقلاً معرفياً في إطار الأكاديميات الغربية.
الثاني: تحول قضايا حقوق الإنسان وضمنها قضايا المرأة إلى أداة بيد القوى الكبرى لإحداث التغيير في المجتمعات التي بدت عصية على الحداثة.
ولعل هذين المتغيرين هما اللذان دفعا منى أبو الفضل أن تضع نصب عينيها ضرورة التأصيل لخطاب عالمي يتعامل مع قضايا المرأة من منظور حضاري/ إسلامي، وذلك تجاوزاً للخطاب الرسمي الذي يقر الوضع القائم تمسكًا بمقولة: إن الإسلام أعطى المرأة حقوقها، وتجاوزاً كذلك للخطاب الفقهي الذي تستغرقه التفاصيل والجزئيات ولا يقدم رؤى كلية لقضايا المرأة.
وللخروج بتلك الرؤية إلى حيز التنفيذ قامت بتأسيس كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية في الولايات المتحدة عام 1998م، وأشهرت جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة في العام التالي مباشرة.
إعادة صياغة المفاهيم النسوية على أرضية قرآنية
آمنت منى أبو الفضل أن تجاوز المنظور النسوي الوضعي السائد لا يتم إلا عبر إسقاط المفاهيم الغربية السائدة وإحلال مفاهيم أخرى محلها مستقاة من الخبرة الحضارية، ومستندة إلى الهدي القرآني، وفي هذا الصدد توصلت إلى أن مفهوم «النفس الواحدة» مفهوم محوري في صلب المنظومة المفهومية الإسلامية؛ بما يؤكده من الوشائج التي تربط النساء بالرجال في إطار العبودية لله، وتوقفت كذلك أمام مفهوم «التكليف» الذي يشمل الإنسان، و«التقوى» كمعيار تمايزه عند الله، وغيرها من المفاهيم التي تحمل مضامين لها دلالاتها العميقة التي تناقض مفهوم «السلطة» المركزي في الفكر النسوي الذي يتمحور حول القوة والسلطة.
ووفقاً للمنظومة التوحيدية، فإن السلطة والطاعة والخضوع إنما يكون لله في إطار عقيدة جامعة يشترك فيها الخلق جميعاً رجالاً ونساء؛ فالخضوع داخل شبكة العلاقات الاجتماعية ليس مرتبطاً بالمرأة (النوع)، ولا بوضع اجتماعي (طبقة)، لكنها تنسحب على المؤمنين جميعاً الذين يسلمون لله مالك الملك طواعية ودون إكراه.
كما تتوقف منى أبو الفضل أمام مفهوم «الولاية» القرآني كما صاغته الآية الكريمة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (التوبة: 71)، الذي من شأنه أن ينقل مركز الثقل من مفهوم القوة والصراع في النسوية الغربية إلى مفهوم آخر مغاير وهو التضامن والتماسك في إطار الجماعة الإسلامية.
وتقارن منى أبو الفضل المفاهيم الغربية بمثيلاتها الإسلامية، وتتخذ من مفهوم «المساواة» منطلقاً حين تتساءل: أين نحن من هذه القيمة المعنوية في إطار منظورنا الحضاري؟ وفي معرض إجابتها تشدد على أن النتائج تختلف باختلاف المقدمات؛ فإذا كانت قيمة الفرد العليا في المنظومة المادية تبدأ بالمطالبة بتثمين جهده في مجال العمل بغية تحقيق المساواة في توفير فرص العمل والأجور وما إلى ذلك من حقوق مادية؛ فإنها في المقابل تجد أن «التسوية» في الإسلام تبدأ من المستوى الوجودي منذ الخلق من نفس واحدة، ثم تجد ترجمتها بعد ذلك في المستويات العمرانية والاجتماعية المختلفة المبنية على صيغة التكافؤ، وانطلاقاً من مفهوم النفس تتأسس جملة من الأحكام الشرعية مفادها تحريم قتل النفس، وتكريم النفس سواء أكانت رجلاً أم امرأة دون أي تمييز بينهما.
سيرة المرأة في التاريخ الإسلامي (السيراتوغرافيا)
يشكل البحث عن موقع المرأة المسلمة في التاريخ الإسلامي ركناً ركيناً من أركان مشروع منى أبو الفضل النسوي الذي ينبني على مسلَّمة أولية قوامها الارتباط العضوي بين المرأة والأمة، وعليه فإن دراسة تاريخ المرأة هو أحد مداخل دراسة تاريخ الأمة ككل؛ «فنحن لا ننظر للمرأة بجنسها أو بفردها، بل ننظر لدورها العمراني وللفعل الذي قامت به بصفته جزءاً من سياق ونسيج وأدوار متداخلة وممتدة في التاريخ»، وانطلاقاً من هذا المنظور، لا تعد منى أبو الفضل قضية المرأة أو مراجعة دورها هدفاً في حد ذاته، ولكنها مدخل في غاية الأهمية عند استهداف قراءة تاريخ الفعالية الحضارية للأمة.
وتفعيلاً لهذا المنظور، قامت بتدشين مشروع «الأم أمة» الذي يبحث في سيرة المرأة المسلمة المعاصرة، والذي يؤسس لمنهجية جديدة في كتابة السير تحت باب «السيراتوغرافيا»، وقد اتخذ من سيرة أم الأطباء د. زهيرة حافظ عابدين نموذجاً تطبيقياً في طرح واختبار هذه المنهجية، وقد صدرت أولى كتابات المشروع تحت عنوان «أم الأطباء المصريين: مجلد تذكاري»، قبيل انتقال د. منى أبو الفضل إلى رحاب ربها بفترة قصيرة، وأتبعته بكتاب آخر عن بنت الشاطئ صدر بعد رحيلها.
معالم قراءة نسوية بديلة
استطاعت منى أبو الفضل من خلال بحوثها وأدبياتها أن تطرح معالم قراءة نسوية بديلة تميزت بعدة خصائص؛ فهي قراءة واعية بالمنطلقات والغايات التي يستبطنها الخطاب النسوي عن وعي منه أو دون وعي، وهي أيضاً واعية بما يطلق عليه «ما قبل المنهج» الذي يتحكم في الأجندة البحثية ويحدد مسبقاً المفاهيم والأطر والتساؤلات المنهجية، الأمر الذي يجعل البحث العلمي لا يبرح أطره المرسومة، ويعيد إنتاج مقولاته دون أن يتجاوزها إلى غيرها، وحسبما تذهب أبو الفضل فإن الوعي بهذه البنية المستبطنة يسمح للقراءة البديلة أن تتحرر من أسر القراءة السائدة وتنطلق من أسئلة أخرى غير معهودة لتصل إلى نتائج جديدة تفتح آفاقاً جديدة أمام البحث العلمي.
وتتسم القراءة البديلة كذلك بكونها قراءة نقدية قادرة على نقد الخطاب النسوي السائد وتفكيك مقولاته، وهذا لا يعني أن غايتها هو الهدم والتقويض، وإنما غايتها الحقيقية تجاوز ذلك إلى بناء خطاب نسوي جديد يتسم بالتركيبية والشمول وعدم تقطيع الظواهر، ومن ثم قدرته على التعامل مع الظواهر الحضارية المركبة.
وختاماً يمكن القول: إن منى أبو الفضل سعت لتأسيس خطاب نسوي بديل ينطلق من الأرضية الحضارية ويستند إلى مفاهيمها وقيمها، واستطاعت تقديم نَوَيَات أولية، وإطار منهجي مقبول يمكن مواصلة البناء عليهما لإنتاج خطاب نسوي إسلامي يتجاوز خانة رد الفعل، وينفك عن نظرية المؤامرة التي حكمته منذ تأسيسه.