حينما يُذكر الاقتصاد وتُذكر القيم، فإن الذاكرة تعود بالوراء إلى الحرب الضروس على القيم التي انتهجها النظام الاقتصادي الرأسمالي من خلال الاهتمام بالحاجات المادية وإهمال الحاجات المعنوية، وتقديس العقل وترك الوحي، والنظر لله عز وجل كأنه صانع ساعة خلقها ثم تركها بعد ذلك تسير دونما تدخلات لاحقة حسب قوانينها الخاصة، معتقداً أن لله الخلق وله الأمر، وفي المقابل فإن النظام الاقتصادي الاشتراكي نظر للكون على أنه لا إله له والحياة مادة، ونظر للدين على أنه أفيون الشعوب، معتقداً أن له الخلق والأمر معاً.
جاءت حركة التنوير بالغرب في القرنين السابع عشر والثامن عشر برؤية علمانية مادية منكرة للوحي في تسيير الشؤون البشرية، وفي المقابل نسبت كل شيء للعقل وقوة المنطق وقدرته على تمييز الخطأ من الصواب، وعلى تنظيم مظاهر الحياة البشرية بصورة تضمن تحقيق الرفاه للبشر، وهذا الأمر يجرد القيم الأخلاقية من كل قدسية يسبغها عليها الدين، مما يجعلها أمراً نسبياً يرجع في تقديره للأشخاص، وهو ما مهَّد لظهور فلسفات غير قيمية في علم الاقتصاد وغيره من العلوم الاجتماعية ممثلة في الفلسفة الداروينية الاجتماعية والمادية والحتمية والوجودية.
فقد أحلت الفلسفة الداروينية الاجتماعية مبدأ البقاء للأقوى محل الأخوة بين البشر، وحملت الفقراء المسؤولية الكاملة عن فقرهم وبؤسهم، أما الفلسفة المادية فقد جعلت هَمَّ الشخص هو زيادة ثرواته وإشباع ملذاته وشهواته الجسدية؛ وهو ما أسس لثقافة الاستهلاك وما ترتب على ذلك من مضاعفة الحاجات البشرية بصورة تفوق قدرة الموارد المتاحة حالياً على سدها.
الاقتصاد الإسلامي وازن بين المصلحة الذاتية والمجتمعية والحاجات المادية والمعنوية وفقاً لمهمة الاستخلاف
وأما الفلسفة الحتمية، فقد أنكرت مسؤولية الأفراد الأخلاقية والمعنوية عن تصرفاتهم، معتبرة أن البشر عاجزون عن السيطرة على تصرفاتهم وتعدها محكومة باستجاباتهم الآلية الأتوماتيكية للمحفزات الخارجية كما عند الحيوان وفقاً لرأي واتسون وسكينر، وبالحالات العقلية اللاواعية التي لا سلطان لوعي الفرد عليها وفقاً لرأي فرويد، وبعوامل الصراع الاجتماعي والاقتصادي وفقاً لرأي ماركس.
وأما الفلسفة الوجودية، فقد تبنت الحرية المطلقة للبشر، ورفضت أي مبرر لوجود قيم متعارف عليها أو لفرض قيود على حرية الأفراد الشخصية، ففتحت بذلك الباب على مصراعيه لإرضاء الملذات الحسية وسياسة عدم التدخل، وكان من نتيجة إهمال القيم أن انتكس المجتمع الغربي أخلاقياً ومعنوياً وإن تقدم مادياً، فتفككت الأسرة وانتشر الشذوذ والعلاقات الجنسية المحرمة والانتحار، وبات الاستقرار النفسي للأفراد نسياً منسياً.
الاقتصاد الإسلامي
وحينما برز في النصف الثاني من القرن العشرين مصطلح الاقتصاد الإسلامي؛ أعاد للقيم الاقتصادية مكانتها ووازن بين المصلحة الذاتية والمصلحة المجتمعية، والحاجات المادية والحاجات المعنوية وفقاً لمهمة الاستخلاف العقدية، وربط الإيمان بالله والعمل الصالح -في الاقتصاد وغيره- باليوم الآخر، وكشف لكل عاقل أنه لا تضاد بين العقل والوحي، فالله عز وجل هو الذي خلق العقل وهو الذي أنزل إليه الوحي لإرشاده.
وقد كان ذلك سبيلاً إلى أهل العدل من علماء الاقتصاد في الغرب للمطالبة بإقرار النظرية الاقتصادية المعيارية القيمية التي تختص بما ينبغي أن يكون جنباً إلى جنب مع النظرية الاقتصادية الوضعية التي تختص بما هو كائن فعلاً، والتحذير من سيطرة قيم الرغبات على القيم الحقيقية.
وها هو الكاتب الفرنسي جاك أوستروي يقول في كتابه «الإسلام والتنمية الاقتصادية»: «الإسلام هو نظام الحياة التطبيقية والأخلاق المثالية الرفيعة معاً، وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبداً، ومن هنا يمكن القول: إن المسلمين لا يقبلون اقتصاداً علمانياً، والاقتصاد الذي يستمد قوته من وحي القرآن يصبح بالضرورة اقتصاداً أخلاقياً، وهذه الأخلاق تقدر أن تعطي معنى جديداً لمفهوم القيمة وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة آلية التصنيع».
.. وينظر للمال نظرة موضوعية كضرورة من ضرورات الحياة فملكيته حق انتفاع به باعتباره استخلافاً
إنه من خلال نظرة تحليلية عادلة إلى آليات النشاط الاقتصادي من إنتاج واستهلاك وتوزيع، والتسليم بأن لله تعالى له الخلق والأمر، تتجلى القيم الحاكمة لتلك الآليات، فالإنتاج في النظام الاقتصادي الإسلامي ينطلق من مفهوم عقدي هو الاستخلاف؛ (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، وغايته تحقيق العبادة لله رب العالمين؛ (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات: 56)، ولا عبادة بدون عمران؛ (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود: 61)، ولا عمران بدون إنتاج يحقق الكفاية للعباد والبلاد، ويجمع بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، بحوافز فطرية متوازنة كحب الملكية ودافع الربحية دون طغيان كما في النظام الرأسمالي أو إخسار كما في النظام الاشتراكي.
كما أن عناصر الإنتاج في النظام الاقتصادي الإسلامي تتكون من العمل الذي يمثل الجهد المبذول من الإنسان بيده وعقله، والمال الذي يتكون من هذا الجهد من الأرض، حيث إن اختلاط العمل بالسلع المشتركة ينتهي بها من سلع مباحة إلى سلع اقتصادية لها ثمن في السوق.
والعمل له حقوقه، فلا بد أن يكون مباحاً في مجال الطيبات التي أحلها الله، وأن يكون نافعاً لصاحبه ومجتمعه، وأن يكون متقناً، فالله عز وجل كتب الإحسان في كل شيء، ويحب إذا عمل عبداً عملاً أن يتقنه.
والنظام الاقتصادي الإسلامي في سبيل تحقيق ذلك حرص على أن يكون العامل قوياً فاهماً لطبيعة عمله أميناً في ممارسته؛ (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) (القصص: 26)، (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف: 55)، كما حرص على إحسان التعامل مع العاملين والوفاء بحقوقهم والبعد عن استغلالهم، وفتح الباب للتميز وتحقيق الكفايات والتخصص وتقسيم العمل وفقاً للقدرات والمواهب ليتبادل الناس المنافع، فكل مسخَّر للآخر وفق مهنته لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا، ومن ثم فإن اختلاف المهن رحمة؛ (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً) (الزخرف: 32).
فإذا كانت الرأسمالية رسخت للطبقية، فإن الإسلام لا يعرف لتلك الطبقية المقيتة سبيلاً، ولكنه يرسخ للدرجية التي تعني أن الكل مرفوع في شيء ومرفوع عليه في شيء آخر، مرفوع فيما يجيده من الأعمال، ومرفوع عليه فيما لا يجيده منها، فبها يستعمل الناس بعضهم بعضاً في قضاء حوائجهم؛ فيحصل بينهم تكامل وتآلف به ينتظم نظام العالم.
المال
كما أن النظام الاقتصادي الإسلامي ينظر للمال نظرة موضوعية كضرورة من ضرورات الحياة، فملكيته ملكية حق انتفاع به باعتباره استخلافاً، ومن ثم فإن الحلال منهجه؛ كسباً وإنفاقاً واستثماراً، ولا مكان فيه لأن يستعبد مسلماً، فهو في يده لا في قلبه، ولا مجال فيه لأكله بالباطل بالربا والغرر والمقامرة والغش والتدليس والخديعة ونحو ذلك لما في ذلك من ظلم وعدوان وهدم لأركان التآلف داخل المجتمع.
النظام الرأسمالي عظَّم المنفعة المادية للمستهلك مُهملاً المنفعة الروحية فحصر الاستهلاك في اللذة الشهوانية
ومن خلال نظرة تحليلية عادلة إلى الاستهلاك في النظام الاقتصادي الإسلامي تتجلى القيم الحاكمة له في ضبطه كيفاً بأن يكون في حلال، وكماً بأن يكون بعيداً عن الإسراف والتبذير والترف، وليس كما سعى النظام الرأسمالي لتعظيم المنفعة المادية للمستهلك مُهملاً المنفعة الروحية، فحصر الاستهلاك في اللذة الشهوانية، وحوّله إلى ثقافة وأسلوب حياة في عالم الإعلانات الغشاشة والعولمة الهدامة بعيداً عن القيم والأخلاق، وفي المقابل حرم النظام الاشتراكي المستهلك من تحديد احتياجاته الاستهلاكية وجعله حبيساً لسلع بالية وقيم مغيبة.
كما أن التوزيع في النظام الاقتصادي الإسلامي لا يقتصر على التوزيع الوظيفي الذي من خلاله يتم توزيع الدخل على عناصر الإنتاج المساهمة فيه -وإن كان هذا التوزيع لا يعرف استحقاق رأس المال للفائدة سبيلاً باعتبارها ربا محرماً- حيث يراعي ما قدمه أصحاب عناصر الإنتاج في العملية الإنتاجية كل حسب جهده، وفي الوقت نفسه ينظم علاقة توزيعية تعبدية بين أصحاب عناصر الإنتاج والمجتمع بصورة تحقق العدالة والأخوة والرحمة وتنتفي فيها الأثرة، من خلال التوزيع الشخصي وإعادة التوزيع بوسائل متعددة كالإرث والزكاة والصدقات والوقف والخراج ونحوها بصورة تحقق التكافل الاجتماعي الأفقي بين الأقاليم، والتكافل الاجتماعي الرأسي بين الأجيال.
وبذلك يتجاوز النظام الاقتصادي الإسلامي النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي لا يسمح باستحقاق الثروة أو الدخل إلا لعناصر الإنتاج التي أسهمت فيه، وفق قوى السوق التي يحركها الاحتكار ومنطق القوة، فقسم المجتمع إلى طبقة طافية مترفة وطبقة غارقة فقيرة معدمة، وفي المقابل فإن النظام الاقتصادي الاشتراكي الذي ادعي أنه جاء لمحاربة الطبقية قسم المجتمع إلى طبقة طافية مترفة ممثلة في الفئة الحاكمة، وطبقة غارقة فقيرة معدمة وهم جموع الشعب التي تحولت اشتراكيتهم الموعودة إلى اشتراكية في الفقر.