لكل حضارة من الحضارات الإنسانية أسس فكرية ونفسية، كانت القوة الدافعة لها، والموجهة لخط سيرها، وقد تنوعت الأسس الفكرية للحضارات الإنسانية، وأثمر كل منها نتائج متنوعة، كان لها مردودها الإيجابي أو السلبي على الأفراد والمجتمعات، وفيما يلي بيان الأسس الفكرية لكل حضارة من الحضارات الإنسانية الشهيرة، وثمراتها، ووجوه قصورها(1).
أولاً: الحضارة اليونانية:
تأسست على تمجيد العقل وحده، فأثمرت علوماً فلسفية ورياضية ونفسية وطبية، وفنونًا جمالية مختلفة، لكنها فشلت في إسعاد الإنسان؛ لأنها اقتصرت على جانب واحد من تكوينه، وهو الجانب العقلي، ولم تستوعب الاحتياجات الأخرى للإنسان.
ثانياً: الحضارة الرومانية:
قامت على تمجيد القوة وحدها، فأثمرت إعداد أجساد قوية، وجيوش متقنة البناء، حسنة الاستعدادات والتدريبات الحربية، وأورثتهم هذه القوة سلطانًا ممتدًا في الأرض على شعوب كثيرة، غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها، كما أثمرت لهم أيضًا تشريع مجموعة من القوانين والتنظيمات المدنية والعسكرية، لكنها –كسابقتها- لم تستوعب الكيان الإنساني كله، فاقتصرت على القوة البدنية، وأغفلت القوة الروحانية والعقلانية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية في الحضارة المثالية.
ثالثاً: الحضارة الفارسية:
قامت على تمجيد اللذة الجسدية، والسلطان، والقوة الحربية، فأثمرت قصورًا فخمة، ومجالات كثيرة للترف المفرط، وجيوشًا حربية ذات بأس، بسطت سلطانهم على شعوب كثيرة غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها، لكنها فشلت في إسعاد أبنائها، رغم توفير المتعة الحسية واللذة الجسدية، لأنها فقدت الجوانب الروحية التي لا يمكن للإنسان أن يسعد بدونها.
رابعاً: الحضارة الهندية:
قامت على تمجيد القوى الروحية وتنميتها بقهر مطالب الجسد وكبت غرائزه، فأثمرت مجموعة كبيرة من التعاليم الروحية التي أخذت بتطاول الأمد صبغة مِلل ونحل وديانات، ووجهتهم للتعلق بالعلوم الروحانية المختلفة؛ كالسحر، وفنون الحيلة الخادعة للحواس، التي تعتمد على التلاعب بها، والتأثير على النفوس من ورائها، ومنحتهم مهارات مختلفة في التأثير على الأحياء الشرسة، فكثر فيهم حواة الثعابين والحيات والعقارب، ونحو ذلك من الهوام السامة المؤذية.
وقد فشلت هذه الحضارة في تغطية الجوانب المتكاملة للإنسان، فلم تقدم الصورة المثالية للحضارة الإنسانية.
خامساً: حضارة القرون الحديثة:
بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر للميلاد واستمرت في نموها المادي تمتد وتنتشر من مهدها في أوروبا إلى كثير من بلاد العالم، فأسسها قائمة على تمجيد العلوم المادية، والاستفادة من جميع الطاقات الكونية لخدمة الجسد، ومنحه وافر الرفاهية والمتعة واللذة؛ واختصار الزمن له، وتقريب المسافات، وتخفيف الجهد عنه، ودفع الآلام الجسدية، وقائمة أيضًا على الرغبة ببسط السلطان على الشعوب، واستغلال خيراتها، وإعداد القوة الكفيلة بتحقيق ذلك بدءًا واستمرارًا.
وقد أثمرت هذه الحضارة مجموعة كبيرة من العلوم المادية المتطورة المتقدمة، ومجموعة ضخمة من المبتكرات والمخترعات التي أفادت الإنسان في مختلف نواحي مطالبه المادية، السلمية والحربية، ومجموعة ضخمة من النظم والتشريعات الوضعية، التي ساهمت في تنظيم علاقات الناس أفرادًا وجماعات وأممًا وشعوبًا ودولًا، كما أثمرت له ذخائر كبيرة جدًّا من القوى الحربية الدفاعية والهجومية.
ولا بد أن يلاحظ الباحثون المنصفون في هذه الحضارة الحديثة أن أسسها الفكرية غير شاملة لحاجات الحياة كلها، وذلك لإهمالها جوانب مهمة من حياة الإنسان النفسية والروحية والخلقية والسلوكية، ولاستهانتها بالجوانب الفكرية العليا، المتصلة بمنشأ الإنسان ومعاده، والغاية من وجوده، من أجل ذلك فإن هذه الحضارة الحديثة لن تستطيع أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية، وربما يكون تقدمها الباهر في وسائل الرفاهية وأعتدة القوة سببًا من أسباب دمارها المذهل إن عاجلًا أو آجلًا.
سادساً: الحضارة الإسلامية:
هي الحضارة الوحيدة التي تشتمل أسسها الفكرية والنفسية على حاجات الحياة كلها، من مختلف جوانبها الفكرية والروحية والنفسية والجسدية والمادية، الفردية والاجتماعية، ومن جميع المجالات العلمية والعملية، لذلك فهي جديرة بأن تمنح الأمم التي تلتزم بها وتسير في منهجها سيرًا قويمًا الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية.
وتتمثل هذه الأسس في الالتزام بالحق وفعل الخير، والابتعاد عن الباطل وفعل الشر، كما تقوم على العالمية والشمولية والجمع بين المثالية والواقعية.
وقد استطاعت أسس هذه الحضارة ووسائلها ومناهجها أن تدفع الأمة الإسلامية في حقبة من الدهر للارتقاء في سلم الحضارة المجيدة المثلى، على مقدار التزامهم بأسسها ووسائلها ومنهجها السديد، وكانت نسبة الارتقاء الذي أحرزته هذه الأمة نسبة مدهشة إذا قيست بالزمن والطاقات التي تيسرت لهم حينئذ، واستمروا في ارتقائهم المدهش حتى أدركهم الوهن والانحراف عن أسس الحضارة الإسلامية الصحيحة، ووسائلها الفعالة، ومنهجها السديد، ويظل ارتقاء قمم الحضارة المثلى أبد الدهر رهنًا بالتزام أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها ومنهجها.
وقد بيّن الله تعالى أن الأمة الإسلامية تستحق هذه المكانة السامية بوسطيتها وتمسكها بما شرعه الله تعالى لها، حيث قال عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، وقال سبحانه وتعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) (آل عمران: 110)، فإذا تمسك المسلمون بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسعوا في عمارة الأرض بالخير والإصلاح؛ فلن يجدوا إلا الخير والرخاء والسعة والنماء، حيث قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) (الأعراف: 96)، وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا) (الجن: 16).
لكن أعداء هذه الحضارة يوجهون قوى شتى، خفية وظاهرة، نحو الأمة الإسلامية، لمنعها من أن ترتكز في بناء حضارتها على كتاب ربها وسُنة رسولها صلى الله عليه وسلم، لذلك فهي في صراع مستمر مع عوامل الهدم والشر والإفساد في الأرض، لكنها بإذن الله لن تستسلم لهم، ولن تترك مصدر عزتها وكرامتها، ما دام فيها العاملون المخلصون، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
__________________________
(1) راجع: الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم، د. عبدالرحمن بن حسن الميداني، ص 29، وكتاب من روائع حضارتنا، د. مصطفى السباعي، ص 4-5.