إننا لا نغالي إذا قلنا: إن الجدل حول قضية «الغزو الفكري.. وهم أم حقيقة؟»، ليس خاصية من خصائص الحياة الفكرية لوطن العروبة وعالم الإسلام، بل هو معلم من معالم الحركة الفكرية في بلاد العالم الثالث وكل مواطن الأمم والحضارات التي أصيبت بهيمنة الاستعمار الغربي خلال القرنين الماضيين.
بل لقد ارتفعت وترتفع الشكوى من الغزو الفكري أصوات في مواطن العراقة للحضارة الغربية مثل فرنسا محذرة من الوافد الأمريكي الذي يهدد بأسلوب الحياة الأمريكية القيم والأعراف الثقافية التي ترسخت في القارة الأوروبية منذ عصر نهضتها الحديث.
ولما كان الهم الذي يشغلنا والمسؤولية التي نجاهد كي نسهم في حمل تبعاتها معنية أساساً بالهم العربي الإسلامي، وتبعات النهضة العربية الإسلامية، كان توجهنا هنا إلى نظر هذه القضية في هذا الإطار، مع إدراك أن نتائج هذا النظر حافلة بما يصلح للاستلهام والتعميم، وخاصة في مواطن الأمم ذات الحضارات العريقة التي شهدت بلادها هيمنة الغرب الحضارية مع الغزوة الاستعمارية التي أصابت تلك البلاد في عصرنا الحديث.
وإذا كانت الفطرة الإنسانية السليمة قد كانت ولا تزال من أقوم السبل وأضمنها وأقصرها لبلوغ الحقيقة في أعقد القضايا المشكلة، فإننا سنختار سبيلها لجلاء وجه الحقيقة في هذا الموضوع.
ولذلك، فنحن -بادئ ذي بدء- إذا تصورنا وطناً من الأوطان، بحدوده الجغرافية والسياسية، وشهدنا تحرك جيش هذا الوطن أو مواطنيه داخل هذه الحدود، فلن يكون ثمة مجال لحديث عن غزو لهذا الوطن، لأن الحركة طبيعية في الإطار الطبيعي، للحدود الطبيعية.
كذلك إذا تصورنا نحن الخريطة السياسية للدول التي تقتسم أرض الكوكب الذي عليه نعيش، ثم نظرنا إلى حركة الهواء وتيارات الرياح التي تعبر حدود هذه الدول، وكذلك التيارات المائية التي تأتي إلى المياه الإقليمية من المياه الدولية، فلن يتسنى لقائل أن يصف عبور الهواء والماء لهذه الحدود بأنه غزو يستدعي المنع والإنكار والاستنكار.
وعند هذا الحد من التصور لا بد لنا من أن نتساءل كي ندخل إلى موضوعنا هل الفكر على هذا الكوكب الذي نعيش فيه بمثابة الهواء والماء لا يعرف ولا يعترف بالحدود، ومن ثم فإن عبوره سواء أكان بالهدوء أو بالاقتحام لحدود الدول والأوطان لا يحمل شيئاً من سمات الغزو التي تستدعي المقاومة؟
أم أن هذا الفكر هو بمثابة الجيش لا بد أن يلزم إطار وطنه وحدوده، فإذا تعدى الحدود كان غزواً يستحق المقاومة والإجلاء؟
أم أن من هذا الفكر ما هو بمثابة الهواء والماء لا يعرف ولا يعترف بالحدود والسدود والقيود، ومن ثم فإن عمومه لوجه الكرة الأرضية بدولها وأوطانها المتعددة لا يُعد غزواً، ومنه ما هو بمثابة الجيش لا بد وأن تتخصص حركته وتختص حريته بحدود دولته دون أن يتعدى هذه الحدود؟
وكما حددت بداهة الفطرة هذا التصور مدخلاً لقضيتنا قضية الغزو الفكري، فإنها قادرة، بل هي الأقدر والأجدر على قيادة العقل العربي والمسلم إلى أصدق الإجابات عن هذا السؤال: الغزو الفكري.. وهم أم حقيقة؟
والأمر الذي يؤكد جدارته هذا التصور ليكون مدخلاً لبلوغ الحقيقة في موضوعنا أن الذين ينكرون ويستنكرون وجود الغزو الفكري معتبرين الحديث عنه مجرد وهْم من الأوهام، إنما ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم باعتباره -رغم الحدود الدولية السياسية والحواجز الجغرافية- وبسبب من التقدم الهائل في ثمرات ثورة الاتصال ينطلقون من تصورهم لعالم اليوم باعتباره وطناً واحداً لحضارة واحدة يسمونها حضارة العصر أو الحضارة العالمية أو الحضارة الإنسانية، ويتصورون الأمم والشعوب والقوميات مجرد درجات ومستويات في البناء الواحد لهذه الحضارة الواحدة.
ومن ثم فليس في هذا التصور حدود -لها حرمة الحدود- تميز أوطاناً متعددة لحضارات متميزة، ولهذا فإن عبور الفكر -كل الفكر- للحدود -كل الحدود- ليس فيه عندهم شبهة غزو ولا أثر عدوان.
أما الذين ينكرون أن يكون عالم اليوم وطناً حضارياً واحداً لحارة عالمية واحدة، فإنهم يدعون إلى ضرورة احترام الحدود الحضارية لأن العالم في تصورهم هو أقرب ما يكون إلى منتدى عالمي لحضارات متميزة، تشترك أممها في عضوية هذا المنتدى.
ومن ثم، فإن بينها ما هو مشترك حضاري عام، وأيضاً فإن هذه الأمم تتمايز حضارياً، الأمر الذي ينفي الوحدة الحضارية، ويستدعي الحفاظ على الهويات الحضارية المتميز، لا لمجرد الحفاظ عليها -رغم أهميتها- إنما لأسباب وطنية وقومية وعقدية، تؤدي دورها في إنهاض أمم كثيرة من كبوتها وتراجعها، لما لهذه الخصوصيات من قدرات على شحن شعوب هذه الأمم بالكبرياء المشروع، والطاقات المحركة في معركة الإبداع، ولما للتعددية الحضارية من دور في إثراء مصادر العطاء العالمي.
________________________________
المصدر: كتاب «الغزو الفكري.. وهم أم حقيقة؟».