يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ {100} وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (آل عمران)، لقد حرص الاحتلال الصهيوني على نشر الانحلال بجميع أشكاله بين أبناء المجتمع الفلسطيني كله، عن طريق فتح أبوابه أمام العمالة في مجتمعه الفاقد لأدنى درجات القيم والأخلاق، كذلك وجود القناة الإعلامية الوحيدة التي كانت تدخل كل بيت فلسطيني فيتلقى ما يوجهه له المحتل.
وما فعله الاحتلال من إطلاق المعتقد الإلحادي عن طريق أصحاب هذا التوجه الذي تجرأ مستغلاً الفراغ الذي ساد المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت، وقد أدى بزوغ نجم الفكر العلماني المغلف بغلاف الوطنية ومقاومة المحتل مما يستهوي فئات عديدة من أبناء المجتمع كل ذلك بترتيب وتخطيط من المحتل الذي عمل على السيطرة الفكرية والقيمية والأخلاقية إلى جانب السيطرة العسكرية والإدارية.
العودة إلى القيم والأخلاق الإسلامية
إدراكاً من الغيورين والحريصين على سلامة المجتمع الفلسطيني وبالخطر الكبير الذي يمارسه الاحتلال، وانطلاقاً من قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) (البقرة: 109)، فقد نشطت العديد من المؤسسات العلمائية والدعوية بالقيام بالتصدي لهذه الفتن والمخططات الهادمة للقيم والأخلاق، وقد بدأت هذه الأنشطة عن طريق افتتاح مراكز التحفيظ للقرآن الكريم، وإلى جواره دروس من القيم والأخلاق المستنبطة منه، ودروس من السيرة النبوية العطرة والأحاديث النبوية الشريفة؛ مما استقطب الكثيرين من أبناء المجتمع بجميع أطيافه، وأصبحت فلسطين وخاصة غزة أيقونة لإنتاج الحفظة بالآلاف من خلال «تاج الوقار»، ثم «صفوة الحفاظ»، ثم السرد على جلسة واحدة، وقد تألق في هذا العطاء الدافق كل من دار القرآن الكريم والسُّنة، كذلك قسم التحفيظ في وزارة الأوقاف.
فلسطين وخاصة غزة أصبحت أيقونة لإنتاج الحفظة بالآلاف من خلال «تاج الوقار» و«صفوة الحفاظ»
وقد تميزت بعض المؤسسات تميزاً فريداً وما زالت في هذا الإنجاز القرآني الفريد، التي منها:
– دار القرآن الكريم والسُّنة:
تعتبر من أنشط وأهم الجمعيات فاعلية وإنجازاً لهذا المشروع الحيوي الكبير، وقد أبدعت هذه الدار في الحفظ والتثبيت والتعليم والتلاوة والقراءات والفضائل والمتابعة والتشجيع وكل ما من شأنه إنشاء جيل قرآني متميز؛ حفظاً وعلماً وأخلاقاً وقيماً.
– الأوقاف:
أنشأت وزارة الأوقاف مراكز تحفيظ في عدد لا بأس به من المساجد، ونشطت أيما نشاط في غزة والضفة، وسارت على نفس النهج الذي سارت عليه دار القرآن، ولكن التجاذبات السياسية أثرت سلباً على عمل مراكز التحفيظ التابعة لها في الضفة الغربية وحاربها الاحتلال في الداخل.
وأما في غزة، فقد كان للأوقاف دور كبير ونشط في هذا الميدان في فتح مراكز التحفيظ بالمساجد، حيث أصبح في المسجد عدة حلقات تحفيظ تتسابق فيها المراكز التابعة لدار القرآن مع المتابعة للأوقاف؛ مما أدى إلى تكامل أثمر إنتاجاً طيباً من المحبين والشغوفين في حفظ القرآن الكريم وتعلم أحكامه وأخلاقياته وقيمه.
– الجمعيات:
هناك جمعيات إغاثية لها تواصل مباشر مع المجتمع، وقد كان لها دور مؤثر كذلك في الإسهام في تعزيزه، عن طريق إما افتتاح مراكز خاصة بها في المساجد وأدى إلى نتائج أوسع، ومساحات أرحب، ومن أشهر هذه الجمعيات التي مارست ذلك جمعية الصلاح الإسلامية، وجمعية المجمع الإسلامي هذا في غزة، أما في الضفة فهناك جمعيات نشطت في هذا المجال على رأسها مؤسسة زكاة المال المنتشرة في أماكن مختلفة في الضفة الغربية.
دار القرآن الكريم والسُّنة من أنشط الجمعيات فقد أبدعت في إنشاء جيل قرآني حفظاً وعلماً وأخلاقاً
وأما في سياق الدعوة إلى القيم والأخلاق، فقد أصبحت المساجد في فلسطين المحاضن الأساسية لهذا الهدف، فانتشرت الدروس الوعظية والمنهجية، وتم التركيز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتميزت خطبة الجمعة بتوجيهات خاصة لهذا الغرض، خاصة بعد الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، وذلك عملاً بقوله تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) (الحج: 41).
فانتشر الحجاب في جميع أنحاء الوطن المحرر بعد أن غاب فترة من الزمن، وقد كان للجامعة الإسلامية بمقرراتها وقوانينها المنبثقة عن أحكام الشرع الحنيف دور بالغ في هذا التغيير القيمي والأخلاقي العظيم.
وقد نشطت مؤسسات أخرى في تقويم المجتمع ورده إلى أصله القويم؛ وهو الاستقامة على منهج الله تعالى، فقد تأسست عام 1992م رابطة علماء فلسطين وحاربها الاحتلال ومنع نشاطاتها، إلا أنها نهضت من جديد في غزة بعد انسحاب الاحتلال، وأسست عملاً منتظماً تضمن جوانب دعوية وتوجيهات سلوكية وضوابط أخلاقية منسجمة مع الشرع الحنيف من خلال الدروس الممنهجة في المساجد التي تضمنت الوعظ والإرشاد وتقويم المجتمع وتنقيته مما لحق به من شوائب النفوس والإرث المتراكم جراء الاحتلال وغيره، وتعزيز التواصل مع فئة الشباب وتشجيعهم على دراسة التخصصات الشرعية.
وقد تضمن ذلك التوعية الدينية بأهمية الجهاد ومكانة المجاهدين ومنزلة الشهيد عند الله تعالى، تم ذلك بطرق مختلفة، إضافة إلى عقد لقاءات بين العلماء والدعاة وأطياف معينة من الشباب الواعد، وعقد الدورات التثقيفية والأيام الدراسية والمؤتمرات العلمية والملتقيات الجماهيرية لمعالجة هذه المواضيع الأساسية وغيرها.
وقد قامت كوكبة من العلماء من هذه المؤسسة وغيرها بالإجابة عن أسئلة المواطنين وتصدير الفتاوى الآنية لهم عن طريق التواصل المفتوح مع الجمهور، حيث تمكن كل مواطن الاتصال بالعلماء وسؤالهم عما يهمه من طوارئ وقعت في الحياة العامة والمناسبات الخاصة، مثل رمضان وأحكام الصيام والحج والأضحية وغيرها من العبادات، ثم خصصت هذه المؤسسات حيزاً مهماً لأحكام الطبيب الخاصة، وكذلك المرضى، وتوجيهات فقهية للتجار وغيرهم.
– لجان الإصلاح والملتقيات الدعوية:
ومن باب التواصل مع المجتمع ومعالجة همومه ومشكلاته، فقد تم تأسيس قرابة 50 لجنة إصلاح لفض الخلافات والخصومات بين الناس، وذلك عن طريق التراضي، فإن لم ينفع التراضي فالتقاضي، ويقضي في الخصومة علماء متخصصون في الفقه ومختلف التخصصات الشرعية، وقد حظيت لجان الرابطة بالثقة الكبيرة في جميع أوساط المجتمع بمختلف شرائحه وتوجهاته.
الفصائل انتبهت للدور المهم للمؤسسات العلمية والدعوية فقامت بتأسيس جمعيات علمية ودعوية
لقد تم تأسيس فرع للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في فلسطين وذلك عام 2012م ومقره المؤقت في غزة، تكامل مع المؤسسات الموجودة العاملة في حقل الدعوة والتربية، وقد تخصص في عمل ملتقيات دعوية كبيرة في المساجد والمنتديات العامة، كان أهمها في المدارس الثانوية طلاباً وطالبات، حيث كان هذا الفرع ينجز أكثر من 150 ملتقى دعوياً في كل عام دراسي عن طريق دعاة شباب متخصصين، وعمل أيام دراسية ودورات توعوية حول بعض المواضيع الشائكة التي أساء بعض الشباب فهمها؛ فأدت إلى انحرافات فكرية انعكست على ممارسات خطيرة، حيث قام الفرع بعمل أكثر من 200 دورة علمية في المساجد وللدعاة ولأفراد الشرطة والمجاهدين ومن عندهم هذه الانحرافات، وكان لهذه الدورات أثر كبير في تقويم الفكر والسلوك وضبط الفهم والمعرفة.
وقد انتبهت التنظيمات لهذا الدور المهم للمؤسسات العلمية والدعوية فقامت بتأسيس جمعيات علمية ودعوية نشطت كذلك كل حسب إمكانياته وقامت بدور مشكور، وقد تكاملت هذه المؤسسات جميعها في العمل المشترك والقيام بواجب الوحدة الوطنية وتعزيز اللحمة الاجتماعية في المجتمع الفلسطيني؛ مما كان له دور مهم في تقارب الفهم والوعي بين المجاهدين المقاومين.
_________________________________________
رئيس فرع فلسطين في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.