يفتح ملف علاقة المسلمين بالغرب الباب واسعاً أمام جملة من التساؤلات حول الرؤية الإسلامية للآخر بشكل عام وما تقدمه من اجتهادات بشأن تنظيم العلائق مع الأغيار، وما تتكئ عليه تلك الرؤية من مبادئ أخلاقية وقواعد تنظيمية حول مسائل الاختلاف والتسامح والانفتاح وغيرها من القيم التي تحفز الفهم والاطلاع وإدراك القواسم المشتركة والخصوصيات الثقافية والحضارية.
وتثير تلك المسألة تساؤلاً في الاتجاه المضاد حول رؤية الغرب للآخر ومدى نجاح الحضارة الغربية في إنتاج مفاهيم ومبادئ قيمية أخلاقية قادرة على التعايش والانفتاح والتسامح مع الآخر، وما إذا كانت الثقافة الغربية في تركيبتها البنيوية قد آمنت بفكرة الصراع ونفي الآخر وسحق المغايرين باعتبارهم خطراً وجودياً في معادلة صفرية لا ينتصر فيها سوى طرف وحيد.
وبالمقابلة فيما بين الرؤيتين، يمكن ملاحظة مدى فداحة الصراع الإسلامي الغربي وسيطرة تلك الثنائية الصراعية على الفكرين الإسلامي والغربي لأكثر من عقدين من الزمان منذ وقوع التلاحم المباشر الأول على وقع مدافع الاحتلال الغربي للدول الإسلامي ساعياً لاقتسام إرث الدولة العثمانية الآفلة، فمنذ الوهلة الأولى اقتحمت الحضارة الغربية العالم الإسلامي على ظهور المدافع، بينما وقع المسلمون في مأزق التعاطي مع المستعمر الأوروبي الأكثر تقدماً الذي يجب المضي على خطاه وفي الوقت نفسه يجدر مقاومته كمحتل غاصب، وهو المأزق الفكري والثقافي والحضاري الذي لا نزال أسرى له حتى يومنا هذا.
وبينما انقسم العالم الإسلامي قسمين كبيرين في مواجهة تلك المعضلة؛ الفريق الأولى تماهى مع الغرب ورأى عدم إمكان التوصل لأي تقدم حقيقي دون أخذ الوصفة الغربية الحضارية كاملة وجاهزة؛ وهو الفريق التغريبي المتعلمن، بينما ذهب الفريق الثاني؛ وهو الفريق الإسلامي بتنويعاته المعتدلة والمتطرفة، إلى رفض الغرب باعتباره شراً محضاً وعدواً مبيناً لا يجب الالتفات إلى أي من منجزاته الحضارية، باعتبار ذلك الالتفات بمثابة خيانة حضارية ووطنية نظراً للجرائم والانتهاكات التي مارسها الغرب في العالم الإسلامي.
نهاية التاريخ
وقد تجلت الرؤية الغربية للآخر بشكل واضح في مصطلح «نهاية التاريخ» الذي استحدثه المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، فقد أبرزت مدى إيمان الغرب بالسيطرة المطلقة على الكون عبر الادعاء بتفوق الغرب ثقافياً وحضارياً على سائر حضارات العالم، ومن ثم إنكار أي تطور تاريخي من الممكن أن يطرأ على مسار التقدم الذي وصل أوجه وكماله بالتطور الغربي، في تناقض منطقي لفكرة التقدمية التي لا تعرف نهاية، لكن الغرب نظراً لانتصاره على الاتحاد السوفييتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي قد قرر إنهاء التاريخ بغرض تفويت الفرصة على أي نهضة حضارية للآخرين.
لكن نهاية التاريخ المزعومة من قبل الغرب قد أفضت إلى اجتهاد جديد هو «صدام الحضارات» للمفكر الأمريكي صامويل هنتنجتون، فقد رأى الغرب لا منطقية إنهاء التاريخ فلجأ إلى استحداث الصدام الثقافي والحضاري بين الدول متوجاً تلك الحقبة بأحداث الحادي عشر من سبتمبر التي قدمت –رغم ما انطوت عليه من شكوك كبيرة– للغرب فرصة قوية لشن حملة قوية ضد الحضارة الإسلامية باعتبارها التهديد الأشد فتكاً وسعت على خلفيتها إلى تسخير كافة الإمكانات -العسكرية والاقتصادية والثقافية- لتجريف ومحو الحضارة الإسلامية ومطاردة المسلمين في كافة أرجاء العالم.
لتعارفوا
في الجهة المقابلة، فقد اهتدت الحضارة الإسلامية بالوحي القرآني الذي انطوى على جملة من المبادئ والمفاهيم والسلوكيات والممارسات التي تحض على فهم وإدراك الاختلاف بين البشر والتسليم به، وذلك في ضوء عدد من الآيات القرآنية التشريعية، منها: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13)، (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) (هود: 118)، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22).
وقد سعى القرآن الكريم لتأسيس عقلية إسلامية منفتحة على الآخر دون أحكام مسبقة أو رفض غير موضوعي يغيب عنه الفهم والتمحيص، بل حرص الخطاب القرآني على ترسيخ الاختلاف كمبدأ إنساني لا فكاك منه للحيلولة دون ظهور التطرف والسعي إلى محو الآخر أو تدجين الشعوب وقولبتها وفرض الأفكار عليها بالقوة، بالإضافة إلى تعميق إدراك المسلمين لأهمية الاختلاف كضرورة حياتية وسُنة كونية إلهية يجب ألا يتم محاربتها والاستكبار أمامها، وهو ما مكَّن المسلمين من تأسيس حضارة على حدود جغرافية مترامية الأطراف استوعبت في إطارها أعداداً ضخمة من الوافدين إلى الإسلام من خلفيات ثقافية وحضارية وعرقية لا حصر لها.
المسلمون ومراوحة المكان
وقد يقول قائل: إن الحضارة الإسلامية حيث بدأت نهضتها لم تقع فريسة لاحتلال غادر، ولم تشهد ما يشهده المسلمون اليوم من استهداف وحصار وملاحقة من جانب حضارة أعتى قوة وأعلى شأناً تمسك بزمام الكون وتحتكر الثقافة والمعرفة، بل أسهم التنوع الثقافي بين الفرس والروم واليونان والرومان واليهودية والمسيحية في فتح الآفاق بحرية أمام المسلمين لينهلوا من الآخرين ويتخيروا ما يلائم دينهم وثقافتهم ويلفظوا ما لا يناسبها، في إطار من القوة والتمدد الجغرافي والنهضة الفكرية التي أتاحت للمسلمين الفرصة للانطلاق من موقع الندية أمام الحضارات الأخرى.
والمسلمون اليوم يراوحون مكانهم منذ قرنين من الزمان، فالمحتل الغاشم الذي أتى في حملات أطلق عليها بهتاناً اسم «الاستعمار» قد رحل شكلياً وبقي اقتصادياً وثقافياً وحضارياً، بل لقد عاد مرة أخرى بوجهه العسكري المباشر في عدد من الدول الإسلامية وعاث فيها فساداً وإفساداً، فكيف يمكن تحقيق نهضة إسلامية في ظل مؤامرة محكمة؟ وهل يمكن لعدو مبين أن يكون هو المخلص في الوقت عينه؟
إن الانفتاح على الغرب لاستخلاص أسباب التقدم والازدهار لا يعني بالضرورة اعتناق كافة أفكاره ومبادئه، ومن ناحية ثانية إن امتلاك الغرب لمقومات النهضة لا يعني أخلاقيته بشكل مطلق، ومن ثم فإن فصل المسائل الأخلاقية والدينية عن الأفكار العلمية والعملية وامتلاك القدرة على أخذ جزئيات التطور المعرفي دون خلفياتها الثقافية أو توظيفها اللاأخلاقي أمر في غاية الأهمية لتأسيس مشروع نهضوي إسلامي ينفتح على الغرب ولا يذوب فيه أو يتماهى معه.
من ناحية ثانية، فإن الانفتاح على الآخر يستلزم إدراكاً مبدئياً بالذات وحدودها في مواجهة ذلك الآخر، وتقدير ما توصل إليه الغرب من اختراعات ومنجزات، بل على العكس إن فهم المسلمين لأنفسهم وإدراكهم لعظمة حضارتهم وما تحويه داخلها من أسباب للرقي والتحضر والإشعاع الثقافي هو السبيل الوحيد نحو الانفتاح على الحضارات الأخرى.
وأخيراً، فإن قبول الأخذ عن الغرب لا يعني قبول الغرب كلياً أو التصالح مع انتهاكاته وجرائمه تجاه المسلمين وحضارتهم، لكن الرفض التام والانكفاء على الذات وتبني مفهوم مغلوط للتقدم قائم على العودة إلى الماضي ليس البديل الناجع لتحقيق نهضة حقيقية، والمسلمون حين كانوا في غياهب الصحراء لم يعرفوا التحضر ولا المدنية، تلمسوا سبيلهم نحو صناعة التاريخ بالاستفادة من تجارب الأمم السابقة، متسلحين بتقديرهم لذاتهم وإيمانهم بشريعتهم وتمسكهم بقيمهم ودينهم واثقين في الوصول آخذين بأسبابه الدنيوية، وهي دروس وعبر لا بد من استخلاصها من أجل تحقيق نهضة إسلامية حقيقية منفتحة على الآخرين ومتميزة عنهم في الوقت نفسه.