ما أصدق هذه العبارة التي قالها عنترة بن شداد لأبيه عندما غزا بعض العرب قبيلته عبس، فقتلوا ونهبوا واستاقوا إبلهم، فقال شداد: كرّ يا عنتر، فقال: العبد لا يحسن الكرّ، إنما يحسن الحِلاب والصّر، فقال: كرّ وأنت حرّ؛ فقاتل قتالاً شديداً حتى دحر الغزاة واستنقذ الإبل.
إن الإنجازات العظيمة لن يقوم بها من كبلته قيود العبودية، ولم تنجح ثورة عبر التاريخ، وما انتشرت دعوة في آفاق الأرض، إلا على أيدي رجال آمنوا بالحرية وانتفضوا على العبودية ورفضوا الذل والمهانة، ذلك أن الإنسان إذا فقد حريته فإنه لا يملك قراره، فهو مجرد خادم لسيده، يأتمر بأمره وإن خالف مصالحه وقيمه.
وأغلال العبودية في وقتنا المعاصر أصبح لها صور وأشكال متنوعة، بعضها جليّ وأكثرها خفيّ، وكثير من أنظمة الحكم في عالمنا الثالث والرابع تمارس القهر والاستبداد على شعوبها بشكل مباشر جليّ لا لبس فيه، وكأن استمرارهم في السلطة والنفوذ مرتبط بقمع الحريات والبطش بالأحرار، فازدهرت السجون فيها حتى زاد عددها على عدد المصانع والجامعات، وأسوأ أغلال العبودية هي تلك التي تبث سمومها في مناهج التعليم، ليتخرج جيل خانع ذليل لا يتجاوز همه إشباع شهواته وملذاته، جيل منفصل عن الواقع وعن رباط الأخوة الإيمانية، الذي ينبغي أن يربطه بالمسلمين حول العالم، جيل لا يرى أبعد من أنفه، ينساق إلى العبودية بأجلى صورها باسم ممارسة الحرية الشخصية، جيل لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً.
وأشد هذه الأغلال ضرراً على الناس ما كانت باسم الدين، عبر علماء باعوا أنفسهم للشيطان، وتحولت منابرهم لمحاربة أولياء الرحمن، جعلوا السلطان صنماً يعبد من دون الله، وجعلوا طاعته في المنكر واجبة كطاعته في المعروف، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، والمعصوم من عصم الله» (رواه البخاري، ح6611)، ومحاربة التدين السليم باسم الدين والمصلحة لعبة يتقنها أولياء الشيطان، فهذا فرعون يدعو لقتل موسى ويبرر ذلك بخشيته من أن يظهر في الأرض الفساد، قال تعالى: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) (غافر: 26)، واليوم نسمع التبرير ذاته، وكأن فرعون معلمهم الأكبر، سمعنا من يقول: أبيدوا «حماس» واقتلوها، فإنا نخاف أن تنشر الإرهاب، وتظهر في الأرض الفساد!
ونعلم يقيناً أن الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم باقٍ إلى يوم القيامة، وأنه لا تزال طائفة من المؤمنين ظاهرين الحق، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، هؤلاء هم الأحرار، وعلى المسلمين في العالم التحرر وكسر أغلال العبودية التي يعانون منها، لأن العبد لا يحسن الكر، ولا رفعة للمسلمين ولا حرية إلا بإتقان الكرّ، وصدق الله العظيم القائل: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال: 60)، وإن الإعداد واجب لدفع المعتدين ولإرهاب الطامعين، والكرّ علامة على العز والكرامة والحرية.
ونختم بهمسة في أذن المسلمين: ليس حرّاً من خذل الطوفان.