ارتبطت العلمانية بالإلحاد في الغرب ارتباطاً وثيقاً، فقد ظهرت العلمانية في أوروبا بسبب الحكم الثيوقراطي الكنسي الذي وقف حجر عثرة أمام العلم وأدخل الخرافات إلى نطاق الدين، ومزج القساوسة والرهبان الخرافات بالعلم، ونصبوا أنفسهم حاكمين على النظريات العلمية، ومع قوة حركة العلم وتقديمه البراهين على نظريات تخالف ما تقوله الكنيسة، بدأت الثورة على الكنيسة، واتجاه الشعوب الأوروبية لفصل الدين عن أمور الحياة.
لم تقف العلمانية إلى حد فصل الدين عن السياسة وحياة الناس وحصرها في العلاقة الروحية بين العبد وربه، فمع خفوت صوت الدين انتقلت العلمانية إلى مرحلة أشد تطرفًا، وهي مرحلة العلمانية الإلحادية المصبوغة بصبغة البحث العلمي، وبلغت ذروتها عند ظهور أفكار كارل ماركس الذي انطلقت أفكاره المادية من الشيوعية التي هي بالأساس مذهب اقتصادي لمواجهة جور الرأسمالية، لكنها قد اصطبغت بصبغة عقائدية؛ إذ جاءت فلسفته لتقنع الناس بأن الدين من صنع الأغنياء للسيطرة على الفقراء، وتمحورت العلمانية حول المادية وإنكار وجود مرجعية نهائية كبرى وقطع الصلة بين الأرض والسماء.
أسوق هذه المقدمة الطويلة التي تتضمن سرداً تاريخياً مختصراً لتطور العلمانية في الغرب، للرد على العلمانيين العرب الذين يقولون: إنهم مؤمنون بالله وبالقيم الأخلاقية السامية وبالمرجعية النهائية، وإن علمانيتهم بعيدة كل البعد عن الإلحاد، وإنها تتمثل فحسب في فصل الدين عن السياسة وشؤون الحكم، فالعلمانية بدأت في أوروبا على هذا النحو، ثم تحولت إلى إلحاد وزندقة لدى نسبة ليست هينة في العالم.
بعض المفكرين العرب أمثال د. عبدالوهاب المسيري -الذي حاول إيجاد جسر للتقارب بين الإسلام والغرب- قسموا العلمانية إلى علمانية شاملة؛ وهي العلمانية الإلحادية التي تنكر وجود الخالق وتقطع كل صلة بالدين وتجعل الإنسان يتمحور حول ذاته، والعلمانية الجزئية التي تعني فصل الدين عن شؤون الحكم والسياسة، اعتقادًا من هؤلاء المفكرين أن هذا التقسيم يصلح كأرضية مشتركة لالتقاء الجميع في مشروع الأمة.
ومع ذلك، تظل العلمانية الجزئية التي يتحدثون عنها جسرًا إلى الإلحاد، ليس فقط استنادًا إلى سردية تطور العلمانية في أوروبا وإفرازها المذهب الإلحادي، ولكن بسبب توهم أصحاب هذا الاتجاه أن النفس البشرية تقبل التجزئة، وأنه يمكن أن يكون لكل من شِقّي الإنسان (الروحي والمادي) دائرة خاصة به، فمع تجريد المناهج التعليمية والنظريات الاقتصادية والأطر المعرفية من فكرة الدين، يصبح الشاب المثقف فريسة لوضعية التناقض، فأمامه خيار الإيمان الذي يوصف بالجمود والتخلف والرجعية والظلامية ومناهضة العلم (وفق رؤية العلمانيين)، وخيار التنوير الذي يعني في هذه الحالة قطع الصلة بالسماء، ومن ثم يكون المآل هو الإلحاد.
وهذا الكلام ليس غريبًا، دائرة المعارف البريطانية نفسها حين تحدثت عن الإلحاد وقسمته إلى إلحاد نظري وعملي، جعلت العلمانية ضمن الإلحاد العملي.
وإنك لتجد أصحاب ما يعرف بالعلمانية الجزئية، هم أشد المدافعين عن الفلاسفة والكتَّاب الملحدين، يستبسلون في الدفاع عنهم وينصبونهم قدوات، ويروجون لأفكارهم وفلسفاتهم، فكيف يتفق هذا مع إظهار تمسكهم بالمرجعية الإسلامية!
وإذا كان كثير من علمانيي العرب القائلين: إن علمانيتهم تقتصر على نبذ الدولة الدينية ينافحون عن نظرية داروين في كتابه «أصل الأنواع»، التي جعلت منشأ الإنسان جرثومة عاشت في مستنقع راكد قبل ملايين السنين، وأن القرد مرحلة من مراحل تطوره التي كان آخرها الإنسان؛ ما أدى إلى انهيار العقائد الدينية وانتشار الأحوال، أليس في كل هذا مدعاة للقول بأن العلمانية الجزئية تندفع بقوة إلى العلمانية الشاملة الإلحادية؟
علمانيو العرب أصحاب العلمانية الجزئية كما يقولون، كل أطروحاتهم تتمحور حول الطعن في ثوابت الدين، وإنكار السُّنة، والزعم بأن التشريعات حالة تاريخية، وغير ذلك من الأفكار التي تنزع قداسة الدين، وهذا بلا ريب يؤدي إلى الشك الديني ويفتح أبواب الإلحاد على مصراعيها.
لا أقول: إن كل علماني ملحد، لكن مما لا شك فيه أن كل ملحد علماني، فالإلحاد هو النقطة التي تنتهي إليها العلمانية، ففكرة تحييد الإله تؤول في النهاية إلى فكرة إنكار الإله.
العلمانية وجدت لها موطئ قدم في أمتنا، لأنها غزت عقر دارنا في وقت استضعاف وغياب التمسك بالدين، بغطاء من الغرب الذي يمسك بزمام القوة، مع وجود تيارات تغريبية من العرب تأثرت ببريق الحضارة الغربية، ولا نجاة للأمة إلا بالعودة إلى الإسلام الذي يقدم الفكرة الصحيحة عن الكون والحياة وعلاقة الأرض بالسماء، ومنهجه الذي يعمر الدنيا بالدين.