ما من شك في أهمية الدور الذي تؤديه «الكتاتيب» باعتبارها مراكز لتحفيظ القرآن الكريم، ومنارة دينية في تعليم اللغة وعلوم النحو والصرف، لها باع كبير منذ قرون، وإسهامات بارزة في بناء الحضارة الإسلامية.
يعد نظام «الكتاتيب» أو «الخلاوي» أو «المحضرة» أحد أبرز وأهم أنظمة التعليم في العديد من الدول العربية والإسلامية، وقد انتشرت بكثافة عبر التاريخ في القاهرة والبصرة والكوفة والفسطاط والقيروان ودمشق وحلب وغزة واليمن، وغيرها.
وعلى مدار التاريخ، كانت الكتاتيب نواة للتعليم الديني في العالمين العربي والإسلامي، باعتبارها مدارس القرآن والسُّنة النبوية واللغة العربية، فضلاً عن كونها مراكز إشعاع ثقافي وحضاري، وحاضنة تربوية فاعلة، وحصناً من حصون اللغة والدين.
يقول المؤرخون: إن الكتاتيب قسمت في السابق إلى كتاتيب أولية تختص بتعليم القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم، وكتاتيب قانونية للتبحر في علوم اللغة والحديث والآداب وصنوف العلوم الأخرى.
وتاريخياً، أدت الكتاتيب في عهد الأيوبيين والمماليك دوراً اجتماعياً بارزاً، حين ظهر نوع من الكتاتيب اختص بتعليم الأيتام وأبناء الفقراء والجند؛ ما وفر لهذه الفئة غير القادرة نوعاً من التعليم والرعاية الاجتماعية.
إن نظرة على دور الكتاتيب، على مر التاريخ، يدرك قيمة وثراء الوجبة الثقافية والمعرفية التي كانت تقدمها لروادها من تعلم القراءة والكتابة، وقواعد الخط، والنحو، إضافة إلى حفظ الأشعار والمتون، مع التبحر في التاريخ والجغرافيا، وعلوم الاجتماع والأدب والرياضيات، وغير ذلك من المهارات الحياتية والسلوكية.
لكن الواقع يؤكد أن تلك المكانة تضررت، أو تراجعت بشكل كبير، أمام تغول وسائل الإعلام والتواصل، وتنامي نفوذ العالم الافتراضي، بمواقعه وتطبيقاته الإلكترونية، وصولاً إلى التطور الهائل عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي، ناهيك عن الأخطار التي يتعرض لها النشء من محاولات ومخططات سلب الإرادة وتذويب الهوية، ونشر الإباحية، وإفشاء الشذوذ والإلحاد وغيره.
أدوار جديدة
ربما استحدثت مسميات جديدة لـ«الكتاتيب»، منها ما أطلقه الأزهر الشريف مؤخراً تحت لافتة «رواق الطفل لتحفيظ القرآن الكريم»، لكن الصورة النمطية عن «الكتاتيب» الراسخة في أذهان الكثيرين ربما تعد عائقاً أمام تطوير هذا الدور، في وقت تفرض فيه التحديات واقعاً جديداً، يحتم إحداث نقلة في هذا المضمار، وصياغة أدوار جديدة تساير متطلبات المرحلة، وتلائم متغيرات المستقبل.
في العام 2020م، قدمت محافظة الأقصر (جنوبي مصر)، تجربة فريدة من نوعها، كانت نقطة انطلاقها من «الكتاتيب»، عبر مسارين؛ الأول: مشاركة الأطفال في إنشاء وتـأسيس مبنى للكتّاب بمدينة القرنة غربي المحافظة، والثاني: تنظيم أول محاكاة للانتخابات؛ لتدريب الأطفال على المشاركة المجتمعية لاختيار الأمهات والآباء والطلاب والأسر المثالية.
وفي السنغال، على سبيل المثال، تجربة أخرى جديرة بالبحث، تقوم على تسجيل كافة المدارس القرآنية في ربوع البلاد في قاعدة بيانات وطنية، تضم كذلك بيانات التلاميذ والمعلمين بجميع الكتاتيب؛ وتقييم مدخلات ومخرجات البرامج المتاحة في تلك المدارس، بهدف الاستفادة من خريجيها على النحو الأمثل.
وعلى النمط الأوروبي، هناك كتاتيب «أون لاين» عبر «زووم» و«سكايب»، تتيح حفظ ودراسة القرآن الكريم، وعلومه، وتعلم التجويد، والتفسير، والسيرة، والحديث، وغير ذلك من علوم الدين، على يد متخصصين يتقنون العديد من اللغات الأجنبية، لتصبح تلك الكتاتيب منارة للدعوة إلى الإسلام.
ربما من واجب الوقت تحديث نظام الكتاتيب، واستحداث كتاتيب الوعي، بما يمنح «الكتَّاب» دوراً جديداً في التنشئة، وينتقل بهذا المنبر التربوي، إلى مستوى آخر من المعرفة، يصب بالتأكيد في صالح المجتمعات العربية والإسلامية.
في هذا السياق، ليس من الحكمة، الإبقاء على أساليب التلقين والتعليم التقليدية في «الكتاتيب»، وتعليم الطفل الأمور الأساسية في الدين كالوضوء والصلاة والطهارة فقط، بل رد الاعتبار لهذا النظام التعليمي، وتحويله إلى مؤسسة تربوية وتعليمية وإبداعية عملاقة.
نحن في حاجة ماسة إلى كتاتيب حديثة تتيح دعم النشء نفسياً وذهنياً وعلمياً، مدعومة بأنشطة تفاعلية وتطوعية، ودورات تدريبية متخصصة، من شأنها تنشئة طفل متميز على كافة المستويات، يكون ملماً بأمور الدين والدنيا، وقادراً على النهوض بمجتمعه وأمته.
ما المانع من تبني إستراتيجية لإعادة إحياء ونشر وتعميم الكتاتيب من جديد، مع تزويدها بالوسائل الحديثة، وتطوير برامجها، وطرق التدريس بها، واعتبارها شهادة ودرجة علمية معترف بها، والتنسيق بين الكتاتيب ومعاهد وكليات القرآن، بل بين الكتاتيب ومراكز الابتكار والاختراع، وكليات العلوم والطب والهندسة، حتى يتم اصطفاء العناصر الذكية والمواهب النادرة، وتوجيه مسارها بشكل صحيح، بما يخدم الإسلام والمسلمين.
لتكن «الكتاتيب» مفرخة للفقهاء والمفسرين والأدباء والمفكرين والعلماء، في جميع التخصصات، ولتكن مؤسسة تعليمية نظامية تسير في مسار مواز للمؤسسات التعليمية الحديثة، ولتعد منارة لغرس الخلق والفضيلة، ومحضناً لتربية ورعاية النشء؛ إيمانياً وعقائدياً وخلقياً وسلوكياً وعلمياً.
إن أفول نجم «الكتاتيب» ليس في صالح العرب والمسلمين، بل أكاد أجزم بأن من مصلحة أوطاننا ومجتمعاتنا التترس من جديد بسلاح «الكتاتيب»، وإحياء هذا النظام من التعليم، وفق أساليب وآليات ومناهج جديدة، مع دمج التقنيات الحديثة والتطبيقات المتطورة في خدمة هذا المسار، بما يصل بنا إلى صناعة كتاتيب الوعي.