رغم بُعد الصين عن ديار الإسلام، فإنها من البلاد التي دخلها الإسلام مبكراً، وحسب السجلات الصينية، فقد وصل الإسلام إلى الصين في القرن الأول الهجري، السابع الميلادي، إذ تشير إلى أن أول تواصل بين الدولة العربية الإسلامية والصين كان في عام 33هـ/ 651م، في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وحسب الإحصاءات الرسمية، فإن الصين تضم أكثر من 40 ألف مسجد، تتوزع في مناطق الصين من شمالها لجنوبها، ومن شرقها لغربها، لكن أقدمها على الإطلاق مسجد «هوايشنغ» (الحنين إلى النبي).
لماذا سُمي المسجد بهذا الاسم؟
يشير كتاب «فصول تانغ الستة» إلى أن هذا المسجد بني على يد الجنرال هواي شنغ، فأطلق اسمه عليه، بينما تفيدنا النقوش على نصب تجديد بناء المسجد أنه: سمي بذلك (أي هوايشنغ؛ وهي تحمل معنى الحنين إلى النبي) تعبيراً عن الحنين إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وتعد المقولة الثانية مما يتفق عليه المؤرخون عموماً، ذلك أن ثمة رواية تقول: إن عدداً من الصحابة في عصر الإسلام الأول قد وصلوا إلى الصين لنشر الإسلام موفدين من قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنهم بعدما استقروا في هذه المدينة لم يستطيعوا كبح جماح حنينهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا ما دفعهم إلى بناء هذا المسجد وتسميته باسم «هوايشنغ» (الحنين إلى النبي).
ورغم استبعاد حدوث مثل هذه الواقعة خاصة في زمن الصحابة رضي الله عنهم، فإنه ربما يكون قد وصل فيما بعد أشخاص من بلاد العرب وهم من بنوا المسجد وأطلقوا عليه هذا الاسم.
المسجد اليوم
يقع مسجد «هوايشنغ» في الحي القديم لمدينة قوانغتشو، وبالتحديد في شارع قوانغتا (المنارة)، وهو الآن لا يختلف في هيئته الحالية عن الماضي كثيراً، فقط كان الباب الرئيس للمسجد في جهة الغرب، فأغلق هذا الباب وفُتح له باب من جهة الجنوب وهو الباب المطل على شارع المنارة.
يحيط بالمسجد سور من الطوب بلون أحمر وارتفاع قدره 3 أمتار، وفي الجهة المقابلة للمسجد عدد من المطاعم والمحال الإسلامية، وهو أمر معتاد في معظم مساجد الصين.
وفور دخولك من الباب يقابلك ممر يقودك إلى فناء المسجد، فترى على يمينك عين ماء كانت تستخدم في الماضي للسقيا وللوضوء، أما اليوم فقد استعيض عنها بصنابير المياه وأباريق الوضوء، ولو التفت إلى اليسار ستجد الباب القديم للمسجد الواقع جهة الغرب والمغلق حالياً، على يساره تقع منارة المسجد العالية التي كانت وما زالت رمزاً للمسجد والشارع والحي.
منارة المسجد
هي عبارة عن بناء أسطواني الشكل، ترتفع 36 متراً، وهي على شكل شعلة تناطح السحاب، وتنقسم إلى جزئين؛ الأول: جسم الشعلة وهو الأكبر، والثاني: فتيل الشعلة وهو الجزء الأعلى منها.
وقد بُنيت جدران المنارة من الطوب، وتتكون من طبقتين حُشر بينهما التراب لتقوية الجدران (نظام البناء في الصين من قبل، وحتى السور العظيم تم بناؤه بهذا الأسلوب أيضاً).
وداخل المنارة سلّمان لولبيان لا يتشابكان، ولكل منهما 154 درجة، كما فُتحت نوافذ صغيرة في جدران المنارة كل عدة درجات لتسريب الضوء للداخل، ولو صعدت أعلى المنارة ينكشف لك الحي القديم كله.
وتختلف المنارة عن الباغودات الشائعة في الصين اختلافاً تاماً من حيث شكلها وتركيبها على حد سواء، فيمكن القول: إنها منارة مبنية على الطراز الإسلامي البحت، وعلى الرغم من أن هذه المنارة قد أتى عليها الدهر، فإنها ما زالت تنتصب بكل خيلاء على ضفة نهر اللؤلؤ كما كانت عليه سابقاً، إنها شاهدة عيان على عراقة التبادلات الثقافية بين الصين وبلاد العرب، كما أنها ترمز إلى أن مجرى الصداقة بين شعب الصين وشعوب العالم الإسلامي ما زال يتدفق بزخم شأنه شأن نهر اللؤلؤ تماماً، وإذا أعطيت ظهرك للمنارة واتجهت للأمام يقابلك جدار في الجهة اليسرى عُلقت عليه صور قديمة للمسجد والمنارة التقطت في فترات زمنية مختلفة.
قاعة الصلاة
وإذا واصلت طريقك للأمام تصل قاعة الصلاة وهي بناء حديث من الطوب، أعيد بناؤها عام 1935م، فهي كبيرة المساحة، حسنة الإضاءة، مميزة بخصائص القصور التقليدية الصينية أيضاً، وهي صغيرة المساحة لكنها نظيفة ومتأنقة.
وقد جرى على المسجد كثير من أعمال التجديد، كان آخرها عام 2000 م التي استمرت نحو 3 سنوات، وتكلفت حوالي 750 ألف يوان (100 ألف دولار)، وهو يبدو اليوم في أبهى حُلة، ويجذب إليه الزوار من كل فج عميق.
ويشهد المسجد حضور عدد كبير من المسلمين ومن العرب المقيمين في مدينة قوانغتشو، كما يشهد زيارات يومية للسائحين من المسلمين وغير المسلمين نظراً لشهرته الواسعة وتاريخه الكبير.
وبالعموم يعتبر المسجد علامة بارزة في تاريخ العمارة الإسلامية في الصين، إذ لا يضاهيه مسجد آخر في تاريخه أو نظام بنائه ومنارته الفريدة من نوعها في مساجد الصين، وبقاؤه لليوم خير شاهد على أصالة الإسلام وعمق تاريخه في الصين.