تحتاج البشرية إلى التواصل بين حضاراتها المتنوعة، حتى تواجه مخاوفها، وتقي نفسها من الأخطار، وتخطو نحو بلوغ الكمال، من خلال الإفادة والتلاقح بين الأفكار والأساليب والأدوات التي يمكن توظيفها لصالح الجميع، وإن الأهداف التي يسهم التواصل بين الحضارات في تحقيقها تتسع لتشمل الأهداف الدينية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ويتبين ذلك فيما يأتي(1):
1- إيقاظ الحس الديني ومواجهة الإلحاد:
إن الإلحاد خطر يهدد البشرية، فهو لا يعترف بالجانب الروحي، ويفسح المجال أمام المادية الصارخة التي لا ترحم صغيراً أو توقر كبيراً، ولهذا فإن المنهج الإسلامي يدعو إلى الاتصال بين الحضارات، من أجل إيقاظ الحسِّ الدينيِّ والحاجة لبعثه مجددًا في نفوسِ الأجيالِ الجديدة عن طريق التربية الصحيحة والتنشئةِ السليمة والتحلي بالأخلاق والتمسك بالتعاليم الدينية القَويمة لمواجهة النزعات الفردية والأنانية والصّدامية، والتطرف والتعصب الأعمى بكل أشكاله وصوره، فإذا حدث ذلك فإن الحس الديني يساعد في النهوض بالإنسانية وحمايتها من خطر الأفكار والسلوكيات الفاسدة.
2- رد الشبهات المثارة حول التعاليم الدينية:
لقد رصد العلماء بعض الشبهات المثارة حول التعاليم الدينية، حيث زعم البعض أن التدين يبعث مشاعر الكراهية والعداء، ويدعو إلى إراقة الدماء!
والحقيقة أن الدين يدعو إلى السماحة التي تتسع حتى تشمل غير المؤمنين به، وفي القرآن الكريم ما يبين هذا المعنى، حيث قال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ {14} مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (الجاثية)، وقال عز وجل: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
فالدين الإسلامي يسمو بالمشاعر المسلمة إلى أفق إنساني ودود، ولم تقتصر هذه السماحة على أهل الكتاب، بل شملت غيرهم ممن لا يرجون لقاء الله(2).
وفي هذا تأكيد على أن الدين الإسلامي لا يدعو إلى الكراهية والعداء، وإنما يدعو إلى السلام والصفاء، فالدين لم يكن أبدًا بريدًا للحروب أو باعثاً لمشاعر الكراهية والعداء والتعصب، أو مثيراً للعنف وإراقة الدماء، فهذه المآسي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، فالآلام التي تعاني منها البشرية اليوم ليست وليدة التمسك بالتعاليم الدينية؛ بل إن أهمّ أسباب أزمة العالم اليوم يعود إلى تغييب الضمير الإنساني وإقصاء الأخلاق الدينية، وكذلك استدعاء النزعة الفردية والفلسفات المادية، التي تؤله الإنسان، وتضع القيم المادية الدنيوية موضع المبادئ العليا والمتسامية، فلا ينبغي أن تتخلى البشرية عن التعاليم الدينية أو تتهمها بصناعة القطيعة الحضارية، بل عليها أن تتمسك بالصحيح من القيم والشرائع الإلهية.
3- تبليغ الدعوة الإسلامية:
تسهم عملية الاتصال بين الحضارات في تهيئة مناخ صالح لنشر الدعوة الإسلامية بين الناس، ويعد التواصل والتفاعل من السمات التي تميزت بها حضارتنا الإسلامية، وتاريخ المسلمين الأوائل شاهد على ذلك، فقد استطاعوا في فترة وجيزة من الزمن أن يصلوا بدينهم وعقيدتهم وفكرهم إلى العقل والوجدان الغربي، ويُحدثوا فيه هزة روحية ونقلة فكرية كبيرة(3).
وقد اهتم المنهج الإسلامي بمقصد تبليغ الدعوة الإسلامية إلى العالم كله، من خلال تأكيده أن هدف الأديانِ الأول والأهمّ هو الإيمان بالله وعبادته، وحثّ جميع البشر على الإيمان بأن هذا الكون يعتمد على إله يحكمه.
كما اهتم علماء الإسلام بمخاطبة أصحاب التأثير بين الناس ومطالبتهم بنشر القيم الدعوية بين الناس، حيث طالبوا بالعمل جدِّياً على نشر ثقافة التسامح والتعايش والسلام، والتدخل فورًا لإيقاف سيل الدماء البريئة، ووقف ما يشهدُه العالم حالياً من حروب وصراعات وتراجع مناخي وانحدار ثقافي وأخلاقي.
كما توجه العلماء إلى المفكرين والفلاسفة والفنانين والإعلاميين والمبدعين في كل مكانٍ ليعيدوا اكتشاف قيم السلام والعدل والخير والجمال والأخوة الإنسانية والعيش المشترك، وليؤكدوا أهميتها كطوق نجاة للجميع، وليسعوا في نشر هذه القيم بين الناس في كل مكان.
4- تحقيق السلام الاجتماعي:
دعا الإسلام إلى تحقيق السلام الاجتماعي، بل لقد شهد المستشرق الإنجليزي مستر جب بأنه إذا ما وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظمى موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى الإسلام لحسم النزاع(4).
ومن هذا المنطلق، طالب العلماء ببناء أجيال جديدة تحمل الخير والسلام، وتدافع عن حق المقهورين والمظلومين والبؤساء في كل مكان، وقد أنكر المنهج الإسلامي كل الممارسات التي تتنافى مع تحقيق السلام الاجتماعي، حيث رفض الاعتداء على الآخرين بغير وجه حق، ولهذا أدان المسلمون كل الممارسات التي تهدد الحياة؛ كالإبادة الجماعية، والعمليات الإرهابية، والتهجير القسريِّ، والمتاجرة بالأعضاء البشرية، والإجهاض، وفي هذا تأكيد على رفض كل الممارسات التي تعرقل السلام الاجتماعي.
5- رعاية الضعفاء:
يهدف الاتصال بين الحضارات إلى رعاية الضعفاء وحفظ حقوقهم وحمايتهم من أي اعتداء، ومن هؤلاء الأطفال والمسنون وذوو الاحتياجات الخاصة والمرأة، فالمنهج الإسلامي يضمن من خلال تحقيق التواصل الحضاري أن يرعى الطفل ويساعد المحتاج ويحمي الضعيف ويصون المرأة ويحفظ حقها.
6- تبادل المنافع بين الناس:
أكد الإسلام ضرورة الاتصال بين الحضارات من أجل فتح الأبواب أمام الجميع لتبادل المنافع واكتساب الخيرات التي وضعها الله في الأرض، فالعلاقة بين الشرق والغرب ضرورة قصوى، ليغتنِي كلاهما من الحضارة الأخرى عبر التّبادل وحوار الثقافات، والتواصل بين الحضارات يفتح الأبواب أمام تبادل المنافع، وييسر السبيل إلى أن ينتفع الإنسان بكل خيرات الأرض، بحيث ينتفع أهل كل إقليم بما في الإقليم الآخر من خير، ويمده بما عنده من فائض أرضه في مقابل أن ينتفع هو بما عنده(5).
7- الحماية من أنظمة التربح الأعمى:
يسعى الاتصال بين الحضارات إلى محاربة سياسات التعصب والتفرقة التي تعبثُ بمصائر الشعوب ومقدَّراتهم، وأنظمة التربح الأعمى، التي لا ترحم فقيراً ولا ترعى محتاجاً، وهي أنظمة استغلالية تقوم على قانون القوة لا قوة القانون، ولذلك ترفضها الدعوة الإسلامية، فالإسلام يرفض منطق الإنسان الاقتصادي الذي لا يفرق بين الخبيث والطيب من الرزق، ولا يسترشد إلا بالرغبات الحسية السريعة وإن كان في أعقابها البلاء(6).
8- مواجهة الفقر:
يرفض الإسلام الفقر، ويستنكر ما يشهده الواقع العالمي من انتشار الفقر وسوء الأحوال الاقتصادية لدى عدد من شعوب الأرض، ويؤكد أن الظلم وافتقاد عدالة التوزيع للثروات الطبيعية –التي يستأثر بها قلة من الأثرياء ويحرم منها السواد الأعظم من شعوب الأرض- قد أنتج وينتج أعداداً هائلة من المرضى والمعوزين والموتى، وأزمات قاتلة تشهدها كثير من الدول، برغم ما تزخر به تلك البلاد من كنوز وثروات، وما تملكه من سواعد قوية وشباب واعد.
وأمام هذه الأزمات التي تجعل ملايين الأطفال يموتون جوعًا، وتتحول أجسادهم -من شدة الفقر والجوع- إلى ما يشبه الهياكل العظمية البالية، يسود صمت عالمي غير مقبول، وفي هذا تأكيد على رفض القطيعة بين الحضارات، بل يدعو الإسلام إلى التواصل الذي يسهم في تحقيق عدالة توزيع الثروات ومواجهة الفقر والمجاعات.
_____________________
(1) منهج الدعوة الإسلامية في التواصل بين الحضارات: د. رمضان حميدة محمد، ص 17.
(2) من القيم الإنسانية في الإسلام: د. محمد رجب البيومي، (2/ 3).
(3) التواصل مع الآخر: سيد عبدالحليم الشوربجي، ص 32.
(4) من القيم الإنسانية في الإسلام: أ. د. محمد رجب البيومي (1/ 61).
(5) المجتمع الإنساني في ظل الإسلام: الإمام محمد أبو زهرة، ص 51.
(6) الإسلام والمذاهب الاقتصادية المعاصرة: يوسف كمال، ص 136.