يعلن العلمانيون أن تحقيق الحرية للناس وتحصيل منافعهم والمحافظة على حقوقهم وضمان التعايش السلمي بينهم تعد ركائز أساسية في فكرتهم التي يدعون الناس إليها، وهم في تلك الدعوة يشيرون إلى أن كل من عداهم من الأفكار أو الشرائع لا تفي بهذه الركائز ولا تستطيع أن تحققها للمؤمنين بها، وفيما يأتي نضع العلمانية في موضع الاختبار من حيث النظرية والتطبيق في موضوع التعايش السلمي بين الناس.
موقف الفكر العلماني من التعايش السلمي
إن الفكر هو السبيل إلى التطبيق، فما يعتنقه الإنسان من فكر يسهم في سير حياته ونظامها في الواقع العملي، وإن الناظر في جذور الفكر العلماني يجد أنه فكر يرتكز على الصراع والنزاع في كل نواحي الحياة، منذ العصر الروماني الذي رأى أصحابه أن الإنسان هو الروماني الحر وحده، ومن عداه برابرة، وأن ما يتدين به الرومان هو الدين الوحيد، وما عداه واجب الاستئصال.
ولقد طبقوا هذه النزعة الواحدية المركزية في عصر وثنيتهم بإبادة النصارى بعد تشريد اليهود، وفي عهد نصرانيتهم باضطهاد المذاهب النصرانية المخالفة لمذهبهم الملكاني، وامتد ذلك فيما عرف بـ«الحروب الدينية» بين مذاهب النصرانية التي امتدت منذ منتصف القرن السادس عشر وحتى العقود الأخيرة من القرن السابع عشر (1562 – 1688م)؛ أي حتى عصر «التنوير»، التي أبيد فيها نحو 10 ملايين؛ أي 40% من سكان وسط أوروبا(1).
إنهم لا يريدون للآخر أن يظهر على السطح حتى ولو كان قوياً، ويريدون فرض ثقافتهم على سائر الأمم، مع هدم الثقافة الأصلية، وانتزاع الهوية من خلال استخدام القوة الغاشمة أو التهديد بها، ويعمدون إلى إثارة العداء وغرس الأحقاد في نفوس الناس تجاه الآخر.
ففي الثقافة الشعبية الغربية نجد إثارة العداء ضد المسلمين، هذا العداء يتمثل في تصوير الشعب المسلم على أنه شعب ملحد لا علاقة له بالله، وسوف يمحى اسمه من فوق الأرض الزاخرة بالحياة، لأنه يعبد الأصنام، ولا يمكن أن يكون له خلاص(2).
وقد ترسخ الشعور المعادي للآخر الإسلامي في الفكر العلماني، حيث يتحدثون عن الإسلام والمسلمين في العقل الأمريكي المعاصر فيقولون: إن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى كل المسلمين كأعداء، ويتصور كثير من الأمريكيين أن المسلمين شعوب غير متحضرة، ودمويون، وغير منطقيين(3)!
ويعلنون أن الحضارة الغربية أرقى من الحضارة الإسلامية، ولا بد من انتصار الحضارة الغربية على الإسلام، الذي يجب أن يُهزم، لأنه –كما يزعمون- لا يعرف الحرية ولا التعددية، ولا حقوق الإنسان، وأن الغرب سيواصل تعميم حضارته، وفرض نفسه على الشعوب، وأن الغرب قد نجح حتى الآن في تعميم حضارته وفرض نفسه مع العالم الشيوعي، وقسم من العالم الإسلامي(4).
هل تمارس العلمانية التعايش السلمي؟
لقد مارس العلمانيون منهج العداء للآخر وإقصاءه طوال عصر استعمار الغرب للأمم والبلاد والحضارات غير الغربية، وخاصة في البلاد الإسلامية، حيث نقلت العلمانية أنظمتها السياسية والاقتصادية ومذاهبها الفكرية والاجتماعية إلى البلاد الإسلامية، وفرضتها على الشعوب بالقوة والإلزام، واستخدمت كل ما أوتيت من قوة لتغيير هوية الأمة الإسلامية، وتغريبها، فأتت بذلك على مبدأ التعايش السلمي، ونقضته من جذوره.
وإن الواقع الحالي للثقافة العلمانية يتجه نحو فرض هذه الثقافة على العالم عن طريق العولمة، من خلال المحافظة على عقلية التمركز الغربي، وإقصاء الآخر، وإنكار القيم، والتسلل إلى أرجاء العالم، من أجل بناء الهيمنة الثقافية الغربية التي تعمل على تحقيقها عن طريق الاتفاقيات الثقافية والاقتصادية والسياسية، التي غالباً ما تفرض فيها مصالحها الثقافية، وسيادة قيمها على الآخرين، لكونها تمثل الطرف الأقوى سواء عن طريق الاتفاقات الثنائية، أو المنظمات الدولية، أو المؤتمرات الكبرى، أو وسائل الإعلام العالمية التي تعتمد على تسويق الفكر العلماني.
من خلال ما سبق يتبين أن الحياة في نظر أصحاب الفكر العلماني صراع لا يهدأ، وقتال لا يتوقف، فهم لا يعرفون الحياة إلا أقوياء ظالمين أو مظلومين مقهورين، أما أن تتسع آفاقهم ليقبلوا الآخر شريكاً محايداً في حب ووئام؛ فهذا ما لا يخطر لهم على بال، فالإنسان في هذا الفكر يعيش في صراع مع نفسه، ومع الفطرة التي فطره الله عليها، وهو كذلك يعيش في صراع مع أخيه الإنسان؛ ذلك لأن الفكر العلماني يقوم على منهج إلغاء الآخر وإنكاره، وفرض ثقافته عليه دون اعتبار لتاريخ، أو دين، أو مذهب.
وقائع عملية الانتهاكات العلمانية للتعايش السلمي
إن الناظر إلى القوانين الغربية الحاكمة في البلاد التي تتخذ العلمانية أساساً لرؤيتها يجد أنهم يُظهرون احترام عقائد وثقافات الآخرين، إلا أن الواقع الحاصل يشهد بغير ذلك في كثير من الأحيان، والأمثلة على ذلك كثيرة، مثل تجريم المآذن في سويسرا(5)، وعدم المعاقبة على انتهاك مقدسات الآخرين بالكلمات والرسوم والأفلام المسيئة، كما حدث في الدنمارك في 30 سبتمبر 2005م، حيث قامت صحيفة «يولاندس بوستن» الدنماركية بنشر 12 صورة كاريكاتيرية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم(6)، وقد أدى نشر هذه الصور إلى جرح مشاعر المسلمين.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية أنتج أقباط المهجر فيلماً سينمائياً يسيء للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وبدأ عرضه في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة(7)، وهذا يدل على أن الفكر العلماني يقوم على الإعلاء من قيمة نفسه، والغض والإنقاص من قيم الآخرين وعقائدهم، وإن كانت قوانينه في الظاهر تبدي ما يناقض ذلك، لكن العبرة بالفعل والممارسة.
وعلى هذا يتبين أن الصراع والنزاع أساس هذا الفكر، وهو يُلبس هذا الصراع أثواباً متعددة ليعمي على الآخرين حقيقة أمره.
___________________
(1) مستقبلنا بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية: د. محمد عمارة، ص 6.
(2) صورة الإسلام في التراث الغربي: هوبرت هيركومر، ترجمة: ثابت عيد، ص 43.
(3) الفرصة السانحة: ريتشارد نيكسون، ترجمة: أحمد صدقي، ص 135.
(4) في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص 92.
(5) انظر: مجلة منبر القدس، العدد (6348)، الإثنين 2 نوفمبر2009م، ص 17.
(6) انظر: جريدة الفجر المصرية، العدد (21)، الإثنين 17/ 10/ 2005م.
(7) انظر: جريدة القدس العربي، العدد (7229)، الأربعاء 12 سبتمبر 2012م، ص 1.