لكي تنهض البشرية بواجبها وتستكمل دورتها، وتؤدي مهمتها، سنَّ ربها سبحانه قانون الزوجية، حفظاً على النسل، وحملاً للرسالة، وأداء للأمانة، ومن أجل ذلك جعل سبحانه بناء الأسرة ميداناً من ميادين طاعته والسعي لمرضاته.
ولكي يبقى النسل قائماً والبشرية ممتدة، خلق الله الشهوة الداعية إلى المعاشرة، وجعلها فطرة في الخلق، ومن أبرز مقاصدها المحافظة على النسل، وبقاء النوع، واستمرار الاستخلاف، واكتمال دورة البشرية.
وهي منظومة ربانية قيمة لا يجوز تقسيمها، أو انتكاسها، أو تبديلها، أو الانتقاء منها وفق الأهواء، فلا يجوز للإنسان أن يُعطل تلك المنظومة بأن يُخصي نفسه، أو يخصيه غيره، أو يأخذ الرجل أو المرأة هرمونات تفسد جنسه وتشوش فطرته!
كما لا يجوز له أن يُفرغ تلك الشهوة دون ضوابط شرعية، وقوانين ربانية، وإلا تُصبح البشرية غابة حيوانية لا يربطها رابط ولا يردعها رادع، بل هي حينئذ أحط من الحيوانات قدراً، وأدنى منها منزلة، فإن الكثير من الحيوانات والوحوش والطيور تغار على أنثاها وتصونها وترعاها!
كما لا يجوز أن يكون قضاء تلك الشهوة بوسائل منكرة، كالزنى واللواط والشذوذ والسحاق، أو أنواع من الزواج منكرة لا تمت للرقي الإنساني بصلة، لأنها تخالف الفطرة، وتفسد البنية المجتمعية، وتقضي على نمو البشرية وارتقائها على كل الأصعدة، وفي شتى المجالات.
كما لا يصلح أن يُقصد الإنجاب لذاته بمعزل عن الأسرة الحاضنة، والبيئة الحافظة، والأرض الطيبة التي ينبت فيها.
فالإنجاب ليس هدفاً لذاته، وإنما لحمل الرسالة والنهوض بالأمانة، ولا يتم ذلك إلا برعاية سليمة، ومحافظة على الفطرة القويمة، لذا كان الزواج والحمل والإرضاع والتربية ميداناً تعبدياً، ومنحة ربانية، واستقامة أخلاقية، ورفعة عند الله وعند الناس؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) (النساء: 1).
فما مواد قانون الزواج في القرآن؟ وما النتائج المترتبة على الغفلة عنه؟ وما المعينات على إقامته؟ وما السبيل لاجتناب خطورة تغييبه.
قانون الزوجية في القرآن الكريم
وتتكون مواد قانون الزوجية ككل القوانين القرآنية وفق المنهجية التي انتهجناها من مواد ثلاث:
الأولى: التكليف والبيان:
قال تعالى: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً) (النبأ: 8)، وقال تعالى: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات: 49).
وهنا نرى بوضوح أن الله تعالى قد أقام الكون كله على سُنة الزوجية، لأنه سبب الإعمار، وامتداد الاستخلاف، وبقاء النفع، فالحيوانات والحشرات والطيور والأسماك والسحاب والنباتات لولا قانون التزاوج ما استقرت وما أثمرت، وما انتفعت بها البشرية.
فأصل الاستخلاف في الأرض أن كلاً منهما -أي آدم وحواء- مكلف به، والكون كله يدور في فلك الاستخلاف على أساس الزوجية، فلا يستطيع أي جنس منفرد أن يقوم بعملية الاستخلاف دون الآخر.
لقد نزل أدم إلى الأرض مع زوجه حواء للقيام بمهمة الاستخلاف في الأرض بصفتهما زوجين وليس بأي مسمى آخر، فلم يكن لآدم عليه السلام وصف آخر غير كونه زوجاً لحواء، ولم تكن كذلك لحواء مسميات أو وظائف أو ألقاب غير أنها زوجة لآدم.
فالأصل في الرجل أنه زوج، ومهمته في الأرض تتحقق أولاً بكونه زوجاً، ومهمة الاستخلاف تحققها المرأة كذلك بكونها زوجة أولاً، فلم تكن الدكتورة حواء أو المهندسة حواء أو الأستاذة حواء بداية! بل كانت حواء الزوجة، ثم أي شيء آخر بعد ذلك بحسبه، فبيتها محرابها، ثم ما زاد عن ذلك يكون بحسبه وبضوابطه.
لذا، كان الزواج شرطاً من شروط تحقق الاستخلاف، وكان تيسيره تيسيراً للاستخلاف، وتعقيده وتأخيره تعقيداً وتأخيراً وتفريطاً في الاستخلاف.
فليعلم الرجال والنساء أنهم لم يُخلقوا أصنافًا متغايرة، وأنواعاً متنازعة، وإنما خلقوا وفق سُنة كونية ثابتة، فمن أراد أن يخرج عن سُنة الكون بأوهام شيطانية، وعلل نفسية، فليعلم أنه يصادم نواميس ربه، فمن أراد أو أرادت أن تنفك عما خلقها الله من أجله، فهي تناقض أصل خلقتها، ومحراب عبادتها الأوسع والأشمل، فهي تقوم بمهمة كونية عظيمة تتمثل في حفظ النسل وحفظ العرض وحفظ الدين وحفظ المال، فهي تحفظ للأمة ضروراتها، فكل محاولة لسلخها عن مقامها ومكانها، هو تقزيم لدورها، وتفريغ لمهمتها، واغتيال للبشرية بأسرها، وتضييع لقيمها ومقومات بقائها، وسر طمأنينتها وسكنها.
الثانية: الضوابط والأحكام:
قال تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (النور: 32)، وقال تعالى: (وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) (البقرة: 221).
فالإيمان ضابط رئيس من ضوابط العلاقة الزوجية، وهو من أعظم روابطها، فإذا غابت رابطة الإيمان فلا قيمة للروابط الأخرى، لأنها سرعان ما تتحول وتتغير وتتبدل، لذا كانت التوصية النبوية جازمة قاطعة: «فاظفر بذات الدين تربت يداك»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه».
ولأن الزواج من مقتضيات الاستخلاف، فلن يحقق الاستخلاف لرب العالمين في الأرض إلا من تحقق بالإيمان به، والتصديق بكتبه، واتباع رسله، فالزواج بمعزل عن منهج من شرعه وأحله مجرد علاقة جنسية لا غير.
الثالثة: الجزاء:
قال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 3)، وقال تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) (المؤمنون: 7)، وقال تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً) (الإسراء: 32).
فمن أعرض عن قانون الزوجية وزهد فيها أو سعى إلى قضاء الشهوة بمعزل عنها أو انتكست فطرته فهو عدو لله مجترئ على حدوده مجاوز للحد ومخالف للفطرة ومضيع لمهمته ومعرض عن هدي الرحمن متبع لنزغ الشيطان.
بل إن هذا العدوان يكون من شؤم اقترافه أن تتحول العلاقة من السكينة والرحمة إلى العداء والتنازع، ومن السكن والاطمئنان إلى الضياع والتشتت والخذلان.
ولقد غفل الكثيرون عن دورهم في هذه الحياة، فهناك من ينادي بالإعراض عن الزواج، واعتبار الزواج منظومة فاشلة تكلف الإنسان الكثير من المسؤوليات التي تعيقه عن التمتع بملذات الحياة، وهناك من يسعى للزواج مشترطًا ألا ينجب أطفالًا، حتى لا يتحمل مسؤولية التربية والتنشئة، وهو ما أدى إلى اختلال كبير في بنية المجتمعات الإسلامية تؤذن بخطر كبير يتهددها في المستقبل القريب.
وفوق كل ذلك توجد مؤسسات عالمية تدعم الشذوذ وتخصص للترويج له الموازنات الضخمة، وفي سبيل الترويج له تحشد الأدوات الإعلامية والسياسية وتوفر حماية قانونية غير مسبوقة للشذوذ الجنسي وللمرجوين له.
انظُرْ كيفَ أنعمَ اللهُ على البشريَّةِ بأنْ خلقَ من كُلِّ شيءٍ زوجَينِ اثنَينِ، وانظُرْ كيفَ كفَرَت البشريَّةُ بتلك النِّعمةِ بالشذوذِ والاكتفاءِ بالعلاقاتِ بعيدًا عن قانونِ التزاوُجِ!
أندَهِشُ من المتضرِّرينَ من الأوبِئةِ والأوجاعِ المنتشِرةِ دونَ أن يُراجِعوا عدمَ الْتزامِهم بهذا القانونِ الذي أرْساهُ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسَلَّم: «لَمْ تَظْهَرِ الفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا».
عاشَ أكثرُ الغربِ حياتَهم بمَعْزلٍ عن قانونِ الزَّواجِ، فماذا حَصَدوا من طُمأنينةٍ؟ وماذا جَنَوا من سَعادةٍ؟ وكم أُصيبُوا بتفتُّتٍ اجتماعِيٍّ وفَسادٍ أخلاقِيٍّ وأوبئةٍ صحيَّةٍ؟!
الزواجُ في الإسلامِ عبادةٌ يُتقرَّبُ بها للهِ تعالى، وليس مُجرَّدَ عَلاقةٍ جنسيَّةٍ بَينَ شخصَينِ.
الرجلُ والمرأةُ زَوجانِ يُكْمِلُ بَعْضُهما الآخَرَ، وليسا أطرافًا متصارِعةً، أو مَصالِحَ مُتنازِعةً، أو سيادةً مُتعالِيةً.