لا شك أن السؤال عن مصير الإنسان بعد الموت وعن كيفية الاستعداد لتلك المرحلة من أهم الأسئلة الحتمية والمصيرية التي تلاحق بني البشر منذ بداية وجودهم على هذه الأرض، ويزداد هذا السؤال والإجابة عنه أهمية في هذا العصر الذي نعيش فيه، وهو العصر الذي كثر فيه الاضطراب الفكري وازداد فيه الانحراف العقائدي وانتشرت فيه الفلسفات العدمية والعبثية والوجودية وغيرها من الفلسفات الضالة التي تحرف الإنسان عن وظيفته الأساسية لهذه الحياة.
وفي الحقيقة، فإنه لا إجابة شافية عن هذا السؤال سوى ما تضمنه الوحي الإلهي ونزل به على قلب الأنبياء والمرسلين، وآخرهم هو الرسالة الخاتمة والوحي المحفوظ الذي نزل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن المؤمن بهذه الرسالة قد وجد الحق الساطع والحقيقة المطلقة التي لا ريب فيها، فإنه يعلم أنه سيلاقي خالقه بعد الموت، وأنه سيحاسب على معتقداته وأفعاله وأقواله كلها أمام الله سبحانه، وهو ما سيؤول به إلى جنة عرضها السماوات والأرض، أو نار جهنم التي أعدها الله للكفار والمشركين والعصاة المتكبرين.
فإن من أعظم ما يمكن أن يفعله المسلم وأن يحرص عليه في حياته الدنيا هو الإعداد للقاء الله تعالى بقلب سليم وعمل صالح يكسبه رضا الله سبحانه ويدخله الجنة وينجيه من النار، وذلك هو الفوز العظيم، وذلك لمعرفته ويقينه بأن هذا هو الغاية والهدف الأسمى والغاية العظمى التي ينشدها المؤمنون باليوم الآخرة، فهو يعيش أيامه كلها وهو يذكر الموت ويعد له ولما بعده مستحضراً قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران: 185)، وإن معرفة طرق وسبل وشروط تحقيق ذلك الفوز العظيم هو ما يطلق عليه البعض اصطلاحاً «فقه القدوم على الله»، وما أحرى المسلمين جميعاً بأن يستزيدوا من تعلم هذا الفقه والعمل به!
وهذه الغاية عظيمة تستوجب تقوى الله تعالى بالعمل بما يرضي الله تعالى واجتناب المنهيات والمحرمات، والاحتكام إلى شريعته بالقول والعمل، وأداء الفرائض والاستزادة من النوافل والتحلي بفضائل وأخلاق الإسلام كالإخلاص والصدق والصبر والعدل والرحمة والكرم وغيرها.
والحقيقة أن تلك المهام ممكنة وليست مستحيلة على الذين هدى الله من المؤمنين والخاشعين، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ {45} الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة)، والله تعالى لا يكلف العباد شيئاً فوق طاقتهم، ولا يكلفهم إلا بما وصلهم من العلم والوحي وما يسعهم فعله، قال سبحانه: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، وقال سبحانه: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (الطلاق: 7).
فالإيمان بالعقيدة الصحيحة والعمل بما توجبه وتقتضيه هو أساس العدة لذلك الموعد العظيم وشرط القبول فيه، قال تعالى: (بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 112)، وقال سبحانه: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (التوبة: 105).
ولا ريب أن تقوى الله تعالى هي خير زاد يتزود به المؤمن، وهي مفتاح الأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة، قال تعالى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) (البقرة: 197)، والتقوى كما عرفها سيدنا عليّ بن أبي طالب «الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل»، وهي شرط سلامة القلب، فالمسلم يجب أن يتعهد قلبه بما يطهره من نوازع الكفر والشرك والنفاق والرياء والشهوات وحب الدنيا، قال سبحانه: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ {87} يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء).
وإن تقوى الله تعالى من موجبات ولاية الله تعالى للعبد في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ) (البقرة: 257)؛ أي: يخرجُهم من ظلماتِ الكفرِ إلى نورِ الإيمانِ، ومن ظلماتِ الجهل إلى نورِ العلمِ، ومن ظلماتِ المعاصي إلى نورِ الطاعاتِ، ومن ظلماتِ الغفلةِ إلى نورِ اليقظةِ الذكرِ، وحاصلُ ذلك أنّهُ يخرِجُهم من ظلماتِ الشرور المتنوّعة إلى ما يدفعُها من أنوارِ الخيرِ العاجلِ والآجل، وإنَّما حازوا هذا العطاءَ الجزيلَ بإيمانهم الصحيح، وتحقيقهم هذا الإيمان بالتقوى، فإنَّ التقوى من تمام الإيمان.
ولكي يتم ذلك الأمر لا بد من أن تستولي محبة الله ورسوله على قلب المؤمن، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) (التوبة: 24)، وتستلزم هذه المحبة حب شرع الله تعالى وحب ما يرضيه وبغض ما يبغضه امتثالاً لقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) (الحجرات: 7).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثٌ مَن كُنَّ فيه وجَدَ حَلَاوَةَ الإيمَانِ: أنْ يَكونَ اللَّهُ ورَسولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ ممَّا سِوَاهُمَا، وأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا لِلَّهِ، وأَنْ يَكْرَهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ كما يَكْرَهُ أنْ يُقْذَفَ في النَّارِ» (رواه البخاري، 16).
هذه بعض الأسس والشروط والواجبات التي يجب على المؤمنين بيوم الحساب أن يعدوا أنفسهم لها، فيكونون بذلك ممن يتلهفون للقاء الله تعالى بنفوس راضية وقلوب سليمة مطمئنة، وهم يحملون كتابهم الناصعة وصحائفهم البيضاء، فيكونون في ركب من يحبهم الله ويحبونه، ويدخلون الجنة مع الأنبياء والشهداء والصالحين.
_____________________
1- الصلابي، علي محمد، (2011)، الإيمان باليوم الآخر.. فقه القدوم على الله، ط2، دار المعرفة، بيروت، 2011.
2- السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، (1998)، التوضيح والبيان لشجرة الإيمان، دار أضواء السلف، ط1، 1998م.