اعتنى القرآن الكريم بالواقع وضرورة فهمه، ودعا إلى السير في الأرض ومعرفة دواعي نشوء الأمم وسقوطها، وعلاقة الواقع بالعلوم الإسلامية وثيقة؛ حيث ساهم في تشكيل عدد منها كعلم الفقه والأصول والفتوى والمقاصد وعلم أسباب النزول وغيرها، ولهذا انشغل علماء السلف بالتنظير للواقع، وفي مقدمتهم ابن القيم في كتابه «إعلام الموقعين»؛ إذ افترض حاجتنا إلى فهم الواقع والفقه فيه، حتى نصل إلى حكم الله في هذا الواقع، وهو أمر متعذر -كما يعتقد- لأن الواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، فلكل زمان حكم.
وتواصل الاهتمام بالواقع في عصرنا الحالي إذ أرسى العلماء قواعد ما يسمى «فقه الواقع» أو «فقه الحال»، وممن أسهم فيه الألباني، والقرضاوي، والترابي، وحسن حنفي، وعبدالمجيد النجار، والنويهي، وأحمد بوعود، وطه العلواني، ويعد الأخير من منظري فقه الواقع المبرزين، وقد قدم أفكاره في كتابين من كتبه وهما «معالم في المنهج القرآني» و«مفاهيم محورية في المنهج والمنهجية»، وفي السطور التالية نعرض لتعريف الشيخ للواقع ومستوياته المختلفة وكيفية تعامل الفقيه معه:
والواقع كما يعرفه العلواني هو: ذلك المؤلف المزيج المركب من كل شيء أو شأن ذي علاقة بنا من وقائع طبيعية وظواهر إنسانية واجتماعية ودينية ومؤثرات حضارية وبيئية وفلسفية تحيط بنا فتشكل أفكارنا أو تؤثر فيها وتتأثر بعد ذلك بها، وتشكل دواعي ودوافع الحركة في أفعالنا.
وهذا الواقع له وجود خارجي مستقل عنا مهما بلغ تأثيرنا فيه، وتصورنا له وتحليلنا له يجعل له وجوداً ذهنياً في عقولنا، وبهذا المعني فالواقع ليس الموجودات المادية والوقائع الفعلية وحسب، ولكنه كذلك الموجودات الذهنية والمعرفية؛ أي صورة الواقع في أذهاننا.
وهذان المستويان من الواقع هما صدى لما ذكره القرآن، فالواقع في المنظور القرآني يبدأ فكرة في الذهن قد تكون بسيطة يمكن إدراجها في إطار التصور الأولي، فإذا تفاعل الذهن معها واتضحت بذلك التفاعل انتقلت لمرحلة التصور وصارت لها خصائص ومقومات، فإذا تفاعل معها الذهن وحصلت بها القناعة انتقلت إلى العقل ليطبق عليها منطقه ويختبر بذلك سلامتها، وعندئذ تنتقل إلى القلب وتصبح عقيدة وإيماناً يقينياً فتحرك الإرادات والدوافع لدى الإنسان أو ما يسمى النية ومعها يتحول الوجود الذهني والعقلي إلى وجود حسي ملموس بفعل إنساني.
ويفترض العلواني أن بروز الفعل الإنساني في إطار الوجود الحسي يصحبه بالضرورة حضور الشرع لتقييمه وبيان مدى مشروعيته وما يترتب عليه من آثار، وعليه لا يمكن حصر الواقع في حيز الوجود المادي لأنه بمثابة منظومة دقيقة كاملة تبدأ بالفكر ولا تنتهي عند الوجود الحسي الأولي للفعل الإنساني، وما يترتب عليه من أحداث وأشياء، بل يتجاوز ذلك إلى مرحلة التقييم ثم الجزاء، وفي جميع هذه المراحل يبرز دور الشيطان الذي يستهدف التدخل من أجل إفساد الواقع الحق وخلق واقع باطل بعيد عن توجيهات الشرع.
ومن التنظير إلى التفعيل ينتقل العلواني إلى مقاربة الواقع المعاصر وإشكالاته، لافتاً النظر إلى أن فقه الواقع يثير الشكوك لدى فريقين من الإسلاميين، وهما: التراثيون أو السلفيون الذين يرون في فقه الواقع دعوة مبطنة لتجاوز التراث؛ وهو ما يصرفهم عن فهم الواقع ودراسته دراسة جادة، وفي هذا دليل على روح الاستسهال التي ولدتها طبيعة التقليد وعقلية العوام، والحركيون الإسلاميون الذين يظنون في الواقعية رمياً لهم بتهمة الغيبية ومفارقة الواقع؛ وهو ما يؤثر سلباً على قيامهم بواجب الدعوة وأدائها بصور ساذجة لا تتلاءم مع معطيات الواقع ومستجداته.
ويتعذر على كلا الفريقين ممارسة جهد فهم الواقع وإدراكه على الوجه الصحيح؛ لأن له شروطاً يفتقدها هؤلاء، وهذه الشروط يجملها العلواني في الآتي:
– تحديد علاقتنا بالآخر وما أنتجه من دراسات بشأن الإسلام والمسلمين، والقدرة على رصد التحيزات الكامنة فيها وتحديد ما يمكن الإفادة منها وما ينبغي رفضه، إذ لا يسعنا الرفض الكلي لما ينتجه الآخر والانغلاق حول الذات.
– الوعي بمكونات ومقومات الفكر الإسلامي المعاصر، والتمييز بداخله بين ما كان منحدراً من التراث والخبرة الحضارية الذاتية، وما كان حصيلة التفاعل مع فكر وثقافات الأمم الأخرى.
– تحديد الموقف من المنهج الغربي الذي يؤمن بمقولات حياد الأدوات والشروط، بل حياد العلم ذاته وموضوعيته المطلقة، وغير ذلك من المقولات التي استعملت لتعزيز النتائج التي توصل إليها الآخر وهو يقوم بدراستنا وتكريسها باعتبارها نتائج يقينية لا يرق إليها شك.
ومع تحقق هذه الشروط يثار السؤال حول كيفية فهم الواقع والتعامل مع إشكالاته، ويتبنى العلواني في إجابته منهجية علم الأصول؛ وملخصها أنه إذا عرضت على المجتهد نازلة ينبغي له الإحاطة بها علماً ومعرفة أسبابها، فإذا فرغ توجه إلى القرآن الكريم يستخرج منه كل ما له علاقة بها، ثم يعرج على سُنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم عمل الصحابة والتابعين من بعدها.
ومن أجل حل أسئلة الواقع يقترح العلواني أن يصوغ العالم سؤالاً أو إشكالاً معرفياً محدداً، فهذا السؤال بمثابة النازلة، ثم يذهب به إلى القرآن ملتمساً الجواب، مفترضاً أن من يقرأ القرآن بدون إشكالية أو سؤال يصعب عليه أن يتجاوز في فهمه للقرآن الجوانب التعبدية والفهم الظاهري للآيات، وهنا يلفت النظر إلى إخفاقنا في العثور على حلول قرآنية لأزماتنا راجع إلى أننا نقارب القرآن من زوايا مختلفة ليس المنهج من بينها، فنحن نقاربه تعبداً، ونقاربه تفسيراً، ونقاربه أحكاماً وفقهاً، لكننا لا نقاربه بحثاً عن منهجية تساعد في حل إشكالات الواقع وتبحث عن إجابات لها من خلاله، ولا يقف العلواني عند هذا الحد، وإنما يسوق نماذج تطبيقية لإشكالات الواقع من مثل إشكالية فاعلية الإنسان، وإشكالية علاقة الأسباب بالمسببات، وإشكالية التشريع الإسلامي، وهل عقوباته عنيفة، ويقدم من خلالها نماذج لكيفية مقاربة قضايا الواقع انطلاقاً من القرآن الكريم.
إن الخطاب الديني المعاصر انشغل بالواقع ومحاولة حل إشكالاته انطلاقاً من الأصول التأسيسية الإسلامية، وفي هذا دلالة على أنه ليس خطاباً ماضوياً يجتر مقولات التراث كما يروج بعضهم.