في عالمٍ تتسابق فيه الأنظار نحو القشور، وتتهافت النفوس على الزينة الظاهرة، يأتينا صوت الحكمة هامساً:
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
هذا النداء الشعري العميق يوقظ فينا إدراكاً لحقيقة طالما غفلنا عنها؛ إن الجمال الحقيقي ليس فيما تراه العين، بل فيما تستشعره الروح وينبض به القلب.
يقول الله تعالى: (لَّقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، فالجمال الإلهي مودعٌ في أعماقنا، ينتظر منا أن نكتشفه ونجليه، إنه ذلك الينبوع الداخلي الذي تحدث عنه شمس الدين التبريزي بقوله: «الجمال ينبوعٌ في داخلك، فلا تتجول بدلوٍ فارغ»، فلماذا نلهث وراء سراب الجمال الخارجي، ونحن نحمل في دواخلنا كنوزاً من الروعة والبهاء؟
الغوص في بحر الذات.. اكتشاف اللؤلؤ المكنون
إن رحلة اكتشاف الجمال الحقيقي تبدأ بالغوص في أعماق الذات، يقول الله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) (الذاريات: 21)، فحين نتأمل في ذواتنا بعين البصيرة، نكتشف ذلك اللؤلؤ المكنون الذي طالما بحثنا عنه في الخارج، وكلما ازددنا غوصاً في بحر أنفسنا؛ ازددنا صفاءً ونقاءً، فنصبح كالمرآة الصافية التي تعكس جمال الكون من حولنا.
يقول الإمام الغزالي: «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، فمعرفة النفس بوابة معرفة الخالق، ومن عرف خالقه حقَّ المعرفة؛ أدرك سر الجمال في كل ما خلق؛ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (السجدة: 7).
التصالح مع الذات.. مفتاح السكينة والجمال الداخلي
لكن رحلة اكتشاف الجمال الداخلي لا تخلو من التحديات، فعلينا أن نتصالح مع ذواتنا بكل ما فيها من نور وظلمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه» (أبو داود، 4918)، فلنكن مرآةً صادقة لأنفسنا أولاً؛ نتقبل عيوبنا كما نتقبل محاسننا، ونسعى لتهذيب النفس وتزكيتها.
هذا التصالح مع الذات يقودنا إلى حالة من السكينة والطمأنينة، يصفها القرآن الكريم بقوله: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، فذكر الله هو المفتاح الذهبي لاكتشاف الجمال الداخلي والشعور بالسلام النفسي.
خفة الروح.. التحرر من ثقل الماديات
حين نكتشف جمالنا الداخلي ونتصالح مع ذواتنا، نشعر بخفةٍ روحية عجيبة، كأننا نتحرر من ثقل جاذبية الأرض، فنطير ونحلق في سماء الروح الفسيحة، يقول الله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق: 3)، فالتوكل على الله يحررنا من قيود الخوف والقلق، ويمنحنا أجنحة نحلق بها فوق هموم الدنيا وأثقالها.
في هذه الحالة السامية، لا نعود نفكر في الرزق بقلق، لأننا نوقن بضمان الله له: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) (هود: 6)، ولا نخشى المصائب، لأننا ندرك أنها مكتوبة ومقدرة: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) (التوبة: 51).
العبودية الخالصة.. ذروة الجمال الروحي
إن ذروة الجمال الروحي تتجلى في تحقيق العبودية الخالصة لله، فحين ندرك أننا عبيد لله وحده، نتحرر من عبودية ما سواه، يقول الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) (الزمر: 36)، فمن كان عبداً لله حقاً، كفاه الله كل شيء، وحماه من كل سوء.
في هذا المقام العالي من العبودية، نشعر بمعية الله وحفظه، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) (الطور: 48)، فأي جمالٍ يفوق جمال الروح التي تستشعر أنها في عين الله ورعايته؟!
انشراح الصدر.. ثمرة الجمال الداخلي
ثمرة هذا الجمال الداخلي والسمو الروحي هي انشراح الصدر وسعة النفس، يقول الله تعالى: (أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ) (الزمر: 22)، فالنور الإلهي يشرق في قلب من حقق الجمال الداخلي، فيرى الحكمة في كل ما يحيط به، ويستشعر الجمال في كل ما خلق الله.
يقول الشاعر:
ترى كلَّ من فيها وما فيها جميلاً إذا كانت المرآةُ منك جميلةً
فحين تتجمل الروح وتسمو، يصبح كل ما حولها جميلاً، حتى في أحلك الظروف وأشد المحن.
دعوة للتأمل والارتقاء
في ختام رحلتنا نحو اكتشاف الجمال الحقيقي، نتذكر قول الله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {8} قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا) (الشمس)، فالفلاح كل الفلاح في تزكية النفس وتطهيرها، وفي السعي الدؤوب نحو تحقيق الجمال الداخلي والسمو الروحي.
فلنقبل على أرواحنا، ولنستكمل فضائلها، ولنسعَ جاهدين لتحقيق العبودية الخالصة لله، حينها سنجد أنفسنا نحلق في سماء الطمأنينة والسكينة، متحررين من ثقل الدنيا وهمومها، مطمئنين بذكر الله، منشرحة صدورنا بنور الإيمان، وسنتذوق حينها حلاوة قول الشاعر:
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان