فاض المال في عصر الحضارة الإسلامية، وعمّ الخير أرجاء الدنيا، وسعدت الحياة بوجود جيل من الأعلام، استطاعوا أن يقودوا حياة الناس الاقتصادية، ويوجهوا شؤونهم المالية على النحو الذي يحبه الله ورسوله.
ومن الأمثلة على ذلك ما أورده القاسم بن سلام أن عُمَر بن عَبْدالْعَزِيزِ كَتَبَ إِلَى عَبْدِالْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَهُوَ بِالْعِرَاقِ: أَنْ أَخْرِجْ لِلنَّاسِ أُعْطِيَاتِهِمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ لِلنَّاسِ أُعْطِيَاتِهِمْ، وَقَدْ بَقِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ كُلَّ مَنِ استدانَ فِي غَيْرِ سَفَهٍ وَلَا سَرَفٍ فَاقْضِ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، إِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَنْهُمْ، وَبَقِيَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَنِ انْظُرْ كُلَّ بِكْرٍ لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَشَاءَ أَنْ تُزَوِّجَهُ فَزَوِّجْهُ وَأَصْدِقْ عَنْهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ زَوَّجْتُ كُلَّ مَنْ وَجَدْتُ، وَقَدْ بَقِيَ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَالٌ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ مَخْرَجِ هَذَا: أَنِ انْظُرْ مَنْ كَانَتْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ فَضَعُفَ عَنْ أَرْضِهِ فَأَسْلِفْهُ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى عَمَلِ أَرْضِهِ، فَإِنَّا لَا نُرِيدُهُمُ لِعَامٍ وَلَا لِعَامَيْنِ(1).
الدعاة شُغِلوا بأداء حق الله في أموالهم وذلك بالبحث عن المحتاجين في كل مجال والحرص على كفايتهم
في هذا الموقف دليل على أن الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية قد شُغِلوا بأداء حق الله في أموالهم، وذلك بالبحث عن المحتاجين في كل مجال، والحرص على كفايتهم، وتقديم الخير لهم.
مظاهر حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على أداء حق الله في المال:
1- الاهتمام بإيتاء الزكاة ومعاقبة مانعيها:
تعد الزكاة أول وأهم مظهر من مظاهر أداء حق الله في المال، فهي فريضة من فرائض الإسلام وركن من أركانه، وقد اهتم بها الخليفة الأول سيدنا أبو بكر الصديق، حيث منعت بعض القبائل الزكاة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فعزم أبو بكر على قتالهم، فاستوقفه عمر بن الخطاب قائلاً: كيفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وقدْ قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَهَا فقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسَابُهُ علَى اللَّهِ»؟!
فَقالَ أبو بكر: واللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَن فَرَّقَ بيْنَ الصَّلَاةِ والزَّكَاةِ، فإنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، واللَّهِ لو مَنَعُونِي عَنَاقاً كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا، قالَ عُمر: فَوَاللَّهِ ما هو إلَّا أنْ قدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أبِي بَكْرٍ، فَعَرَفْتُ أنَّه الحَقُّ(2)؛ وفي هذا دليل على حرص الخلفاء على إيتاء الزكاة ومعاقبة المتخلفين عن أدائها.
2- المبادرة بالعطاء عند توفر المال:
روى ابن المنكدر عن أم ذرة -وكانت تغشى أم المؤمنين عائشة- قالت: بُعِث إليها بمال في غرارتين، قالت: أراه ثمانين أو مائة ألف، فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة، فجلست تقسم بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية، هلمي فطري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمت اليوم أن تشتري لنا لحماً بدرهم نفطر عليه، قالت: لا تعنفيني لو كنت ذَكَّرْتِينِي لفعلت(3)، إنها نسيت الطعام الذي ستأكله، وتصدقت بجميع المال فور وصوله، رغبة فيما عند الله عز وجل!
3- عدم انتظار فضل المال وزيادته حتى يؤدوا حق الله:
يؤخر بعض الناس أداء الصدقة حتى يفيض عندهم المال، ويقولون في أنفسهم: إن الصدقة تكون من فضل المال وزيادته، والحقيقة أن الدعاة إلى الله تعالى في الحضارة الإسلامية قد اهتموا في التربية والإعداد بالمبادرة وعدم انتظار فضل المال وزيادته، ومن ذلك ما روي عن فَاطِمَةَ بِنْت الْمُنْذِرِ قَالَتْ: قَالَتْ أَسْمَاءُ بنت أبي بكر: يَا بَنَاتِي، تَصَدَّقْنَ وَلا تَنْتَظِرْنَ الْفَضْلَ، فَإِنَّكُنَّ إِنِ انْتَظَرَتُنَّ الْفَضْلَ لَنْ تَجِدْنَهُ، وَإِنْ تَصَدَّقْنَ لَمْ تَجِدْنَ فَقْدَهُ(4).
4- التصريح بأن من منافع المال ادخاره للآخرة:
روى الإمام مسلم في صحيحه عَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»، والمعنى: إذا دفعت الصدقة للفقراء قدمتها لك في الدار الآخرة، فانظر إلى المال الذي أكلته فني ولم يبق منه شيء، والذي لبست بلي وما استفدت منه شيئاً بعد ذلك، لكن عندما تصدقت هذا هو الذي قدمته للدار الآخرة وظل باقياً.
ادخار المال حتى يبلغ النصاب دون إخراج الزكاة فيه كنز للمال وقد توعد الله الكانزين بالعذاب الأليم
قال الغزالي: المسلم يتَفَكَّر فِي مَقَاصِدِ الْمَالِ وَأَنَّهُ لِمَاذَا خلق، ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه وَالْبَاقِي يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَحْصُلَ لَهُ ثَوَابُ بَذْلِهِ(5)، وقال ابن حبان: الواجب على العاقل إذا أمكنه اللَّه تعالى من حطام هذه الدنيا الفانية وعلم زوالها عنه وانقلابها إلى غيره، وأنه لا ينفعه في الآخرة إلا مَا قدم من الأعمال الصالحة؛ أن يبلغ مجهوده في أداء الحقوق في ماله، والقيام بالواجب في أسبابه، مبتغياً بذلك الثواب في العقبى، والذكر الجميل في الدنيا، إذ السخاء محبة ومحمدة، كما أن البخل مذمة ومبغضة، ولا خير في المال إلا مع الجود(6).
دوافع حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على أداء حق الله في المال:
1- التحلي بالسخاء:
قيل لسفيان بن عيينة: ما السخاء؟ قال: البر بالإخوان والجود بالمال(7).
وقال بكر بن محمّد: ينبغي أن يكون المؤمن من السّخاء هكذا وحثا بيديه(8)، وقال اللّيث بن سعد: كان ابن شهاب من أسخى من رأيت، كان يعطي كلّ من جاءه وسأله، حتّى إذا لم يبق شيء تسلّف من أصحابه، فيعطونه، حتّى إذا لم يبق معهم شيء حلفوا أنّه لم يبق معهم شيء فيستلف من عبيده فيقول لأحدهم: يا فلان، أسلفني كما تعرف وأضعّف لك كما تعلم، فيسلّفونه، ولا يرى بذلك بأساً، وربّما جاءه السّائل فلا يجد ما يعطيه فيتغيّر عند ذلك وجهه فيقول للسّائل: أبشر فسوف يأتي الله بخير(9).
2- اليقين بأن المال إذا لم يؤد فيه حق الله كان سبباً في هلاك صاحبه:
روى ابن حبان عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا إِنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَهُمَا مُهْلِكَاكُمْ»، وروى الطبراني عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن لله عند أقوامٍ نِعَماً أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ما لم يَمَلُّوهُمْ، فإذا مَلُّوهُمْ نَقَلَهَا إلى غيرهم»؛ أي إذا نفروا من مساعدة الناس ومنعوا حق الله عنهم؛ سلب الله نعمته عنهم.
أداء حق الله في المال أفاد الحضارة الإسلامية من خلال بناء مجتمع قوي ومتماسك يتميز بالتكافل والتضامن
3- الخوف من كنز المال والمعاقبة عليه:
يعد ادخار المال حتى يبلغ النصاب دون إخراج الزكاة فيه كنزاً للمال، وقد توعد الله الكانزين بالعذاب الأليم، فقال: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة: 34)، قال ابن رجب الحنبلي: إِنَّمَا سمي الذهب ذهباً لأنّه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض؛ يعني تنفض بسرعة، فلا بقاء لهما، فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له، فإنَّ نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير، وقال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار! لا ينفعانك حتى يفارقانكَ فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان، وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات(10).
4- المال وسيلة لتأليف القلوب على الإسلام:
لقد جعل الله سبحانه وتعالى للمؤلفة قلوبهم سهماً في مصارف الزكاة؛ مما يدل على أهميتها في تأليف القلوب على الإسلام، وروى مسلم في صحيحه عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «مَا سُئِلَ النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئاً إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: يَا قَوْمِ، أَسْلِمُوا! فَإِنَّ مُحَمَّداً يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ».
وقد ارتكز المسلمون في عصر الحضارة على ما قرره القرآن الكريم وقررته السُّنة النبوية من إنفاق المال لتحبيب الناس في الدين وإقبالهم على اعتناقه، وهكذا نرى أن أداء حق الله في المال قد أفاد الحضارة الإسلامية من خلال بناء مجتمع قوي ومتماسك، يتميز بالتكافل والتضامن، كما أدى ذلك إلى تطور النظام المالي واستيعاب الأحداث المتجددة، وتحريك الأموال وتنميتها، مما أثمر نمواً وازدهاراً في البناء الحضاري للأمة الإسلامية.
_______________________
(1) الأموال: أبو عبيد بن سلام، ص 319.
(2) متفق عليه: البخاري (1399)، ومسلم (20).
(3) حلية الأولياء (2/ 47).
(4) تاريخ الإسلام: الذهبي (2/ 786).
(5) إحياء علوم الدين (3/ 262).
(6) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء، ص 235.
(7) إحياء علوم الدين (3/ 247).
(8) المنتقى من مكارم الأخلاق: للخرائطي، ص 13.
(9) المرجع السابق، ص 134.
(10) رسائل ابن رجب، ص 336.